"مَا أَرَادَتْ هِمَّةُ سَالِكٍ أَنْ تَقِفَ عِنْدَمَا كُشِفَ لَهَا إِلاَّ وَنَادَتْهُ هَوَاتِفُ الْحَقِيقَةِ الَّذِى تَطْلُبُ أَمَامَكَ ، وَلاَ تَبَرَّجَتْ ظَوَاهِرُ الْمُكَوَّنَاتِ إِلاَّ وَنَادَتْكَ حَقَائِقُهَا : "إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ"
فالسائر إلى الله تعالى قد يتجلى له أثناء سلوكه ومجاهدته أنوار وأسرار، وكلما أرادت همته أن تقف عند ما كشف لها من ذلك لاعتقاده أنه وصل إلى الغاية القصوى والنهاية من المعرفة - نادته هواتف الحقيقة :المطلوب الذي تطلب أمامك ، فجدّ في السير ، ولا تقف فإن تبرّجت له ظواهر المكونات بزينتها ، فمال إلى حسنها وجمالها - نادته حقائقها الباطنة ، إنما نحن فتنة فلا تكفر ، وغمض عينيك عن ذلك ، ولا تلتفت إليه ، ودم على سلوكك وسيرك , واعلم أنه ما دامت لك همة واردة - فأنت بعد في الطريق لم تصل ، فلو فنيت عنهما لوصلت .
وما أحسن قول الشيخ أبي الحسن الشُّشتري في هذا المعنى:
فلا تلتفــت فــي الســير غيرا وكــل ما .. سوى الله غيــٌر فاتّخذ ذكره حصناً
وكـــل مقـــــام لا تقـــم فـــيه إنــــه .. حجاب، فجد الســير واستنجد العونا
ومهما ترى كــل الـــمراتب تجــتلـى .. عليك فَحُل عـنها فعن مثــلها حُلنَــا
وقل : ليـس لي في غير ذاتك مطلـبٌ ..فلا صورةٌ تُجلّى ولا طَرفـَةُ تُجنَــــــى
ولقد رأيت لسيدي أبي الحسن الشاذلي رضي الله عنه كلاما حسنا مناسبا لما ذكره المؤلف رحمه الله تعالى هنا من الترقي في الأحوال ، وظهور النقص في رؤية الكمال فرأيت أن أذكره ههنا بنصه ، لما فيه من سنيّ الفوائد ، وشريف المقاصد . قال رضي الله عنه :"إذا أردت أن يكون لك نصيب مما لأولياء الله تعالى، فعليك برفض الناس جملة واحدة إلا من يدلك على الله بإشارة صادقة وأعمال ثابتة ، لا ينقضها كتاب ولا سنة ، وأعرض عن الدنيا بالكلية ، ولا تكن ممن يُعرضُ عنها ليعطى شيئا من ذلك ، بل كن في ذلك عبد الله ، أمرك أن ترفض عدوه ، فإن أتيت بهاتين الخصلتين : الإعراض عن الناس ، والزهد في الدنيا ، فأقم مع الله بالمراقبة ، والتزم التوبة بالرعاية والاستغفار والإنابة والخضوع للأحكام بالاستقامة .
وتفسير هذه الوجوه الأربعة : أن تقوم عبدا لله فيما تأتي وتذر ، وتراقب قلبك. ألاّ يرى قلبك في المملكة شيئا لغيره ، فإن أتيت بهذا نادتك هواتف الحق من أنوار العزة : إنك قد عميت عن طريق الرشد ، من أين لك القيام مع الله تعالى بالمراقبة ، وأنت تسمع قوله " وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا" فهناك يدرك من الحياء ما يحملك على التوبة مما ظننت أنه قريب.
فالتزم التوبة بالرعاية لقلبك : ألا يشهد ذلك منك بحال ، فتعود إلى ما خرجت عنه ، فإن صحت هذه منك نادتك الهواتف أيضا من الحق تعالى : التوبة منه بدت والإنابة منه تتبعها ، واشتغالك بما هو وصف لك حجاب عن مرادك ، فهنالك تظهر أوصافك ، فتستعيد بالله منها، وتأخد في الاستغفار والانابة ، والاستغفار طلب الستر من أوصافك بالرجوع إلى أوصافه ، فإن كنت بهذه الصفة ، أعني : الاستغفار والانابة - ناداك عن قريب : اخضع لأحكامي ، ودع عنك منازعتي ، واستقم مع إرادتي برفض إرادتك ، وإنما هي ربوبية "تولت عبودية" وكن عبدا مملوكا ، لا تقدر على شيء ، فمتى رأيت منك قدرة وكلتك إليها ، وأنا بكل شيء عليم ، فإن صحّ لك هذا الباب ولزمته - أشرفت
من هناك على أسراره ، لا تكاد تُسمَعُ من أحد من العالمين .
تعقيب
من هناك على أسراره ، لا تكاد تُسمَعُ من أحد من العالمين .
تعقيب
الوقوف بالمهمة على شيء دون الحق حرمان ، والاشتغال بطلب ما يقرب إلى الله كرامة من الله ورضوان ، فاشتغال النفس بالطلب له مفتاح كل خير.
وأبيات الششتري تشير إلى التنبيه على عدم الوقوف مع المقامات والكرامات ، ففي ذلك كفر لحق المنعم ، وشكر النعم يكون بالاقبال على المنعم ، إذ إنّ المعروف لا يتناهى ، فالمعرفة به لا تتناهى في الدّار الآخرة ، فضلا عن الدّار الدّنيا .
فعلى المسلم أن يجد في الطلب ، وأن يلتزم الأدب .