إِذَا رَأَيْتَ عَبْدًا أَقَامَهُ اللهُ تَعَالَى بِوُجُودِ الأَوْرَادِ ، وَأَدَامَهُ عَلَيْهَا مَعَ طُولِ الإِمْدَادِ فَلاَ تَسْتَحْقِرَنَّ مَا مَنَحَهُ مَوْلاَهُ ؛ لأَنَّكَ لَمْ تَرَ عَلَيْهِ سِيمَا الْعَارِفِينَ ، وَلاَ بَهْجَةَ الْمُحِبِّينَ ، فَلَوْلاَ وَارِدٌ مَا كَانَ وِرْدٌ . قَوْمٌ أَقَامَهُمُ الْحَقُّ لِخِدْمَتِهِ ، وَقَوْمٌ اخْتَصَّهُمْ بِمَحَبَّتِهِ ، {كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاَءِ وَهَؤُلاَءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا}
وهو أن لا يستحقر شيئاً من تجليات الحق على أي حال كانت ، فلا ينبغي أن ينازع مقتدر ولا أن يضاد قهار ، ولا أن يعترض على حكيم .
فإذا رأيت عبداً أقامه الحق تعالى بوجود الأوراد ككثرة صلاة وصيام وذكر وتلاوة وإجتهاد وأدامه عليها مع طول الإمداد أي استمراره معه ، وهو تقويته في الباطن وصرف الشواغل والشواغب في الظاهر لكنه لم يفتح عليه في علم الأذواق وعمل القلوب ، فلا تستحقرن حاله وما منحه مولاه . لأجل أنك لم تر عليه سيما العارفين من السكينة والطمأنينة وراحة الجوارح والقلب ، بسبب هبوب نسيم الرضى والتسليم على أرواحهم . وقال الشيخ زروق سيما العارفين ثلاث :
"أولها الإعراض عما سوى معروفهم بكل حال وعلى كل وجه .
الثاني الإقبال عليه بترك الحظوظ وإقامة الحقوق .
الثالث الرضى عنه في مجاري أقداره ".
ولا تستحقر حاله أيضاً لأجل إنك لم تر عليه بهجة المحبين ، وهي الفرح بمحبوبه والإكثار من ذكره ، والقيام بشكره ، والإغتباط بمحبته ، والمسارعة إلى محابه ، وطلب مرضاته ، والخضوع لعظمته ، والتذلل لقهره وعزته. فكيف تستحقر من دامت خدمته واتصلت أوراده ، فلولا وجود الوارد الإلهي في باطنه ما قدر على إدامة أوراده ، فلولا وارد ما كان ورد ، فالوارد ما منه إليك ، والورد ما منك إليه ، وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَىٰ مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا ، وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إلا قليلاً يحبهم ويحبونه ، ثم تاب عليهم ليتوبوا ، فالعناية سابقة والهداية لاحقة ، والأمر كله بيده وفي التحقيق ، ما ثم إلا سابقة التوفيق ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
ثم إن الإقامة على دوام الأوراد وهي خدمة الجوارح من شأن أهل الخدمة وهم العباد والزهاد ، والانتقال منها إلى عمد القلوب من شأن أهل المحبة والمعرفة ، وهم العارفون ، وكلهم عباد الله ومن أهل عنايته فلا يستحقرهم إلا جاهل أو مطرود ، كما بين ذلك بقوله:
قَوْمٌ أَقَامَهُمُ الْحَقُّ لِخِدْمَتِهِ ،وَقَوْمٌ اخْتَصَّهُمْ بِمَحَبَّتِهِ ، {كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاَءِ وَهَؤُلاَءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} .
العباد المخصوصون بالعناية على قسمين ، قسم وجههم الحق لخدمته وأقامهم فيها وهم أنواع ، فمنهم من انقطع في الفيافي والقفار لقيام الليل وصيام النهار ، وهم العباد والزهاد ، ومنهم من وجهه الحق لإقامة الدين وحفظ شرائع المسلمين ، وهم العلماء والصلحاء ، ومنهم من أقامه الحق لنصرة الدين وإعلاء كلماته ، وهم المجاهدون في سبيل رب العالمين ، ومنهم من أقامه الحق لتمهيد البلاد وتسكين العباد ، وهم الأمراء والسلاطين ، وقسم أقامهم الحق لمحبته واختصهم بمعرفته ، وهم العارفون الكاملون ، سلكوا سواء الطريق ووصلوا إلى عين التحقيق وبينهما فرق كبير ، لأن أهل الخدمة طالبون الأجور ، وأهل المحبة رفعت عنهم الستور ، أهل الخدمة يأخذون أجورهم وراء الباب ، وأهل المحبة في مناجاة الأحباب ، أهل الخدمة مسدول بينهم وبينه الحجاب ، وأهل المحبة مرفوع بينهم وبينه الحجاب ، أهل الخدمة من أهل الدليل والبرهان ، وأهل المحبة من أهل الشهود والعيان ، أهل الخدمة لا تنفك عنهم الحظوظ وأهل المحبة تصب عليهم الحظوظ ،أهل الخدمة محبتهم مقسومة وأهل المحبة محبتهم مجموعة ، فلذلك دام أهل الخدمة في خدمتهم ، ونفذ المحبون إلى شهود محبوبهم ، فلو تركوا الحظوظ وحصروا محبتهم في محبوب واحد لنفذوا إلى محبوبهم وشهدوه ببصر إيقانهم ، وأستراحوا من تعب خدمتهم ، ولكن حكمة الحكيم ، أقامتهم في خدمتهم فوجب تعظيمهم في الجملة ولا يلزم منه عدم تفضيل أهل المعرفة والمحبة عليهم .
كلامه رضي الله عنه هذا آخر الباب السابع وحاصلها ، رفع الهمة وشكر النعمة ، وحسن الأدب في الخدمة ، ونفوذ العزيمة بالانتقال من دوام الخدمة إلى المحبة والمعرفة ،وإذا أراد الله أن يصطفي عبداً لحمل معرفته ، وينقله من تعب خدمته ، قوي عليه الواردات الإلهية ، فجذبته إلى الحضرة الربانية ، وهي مواهب لا مكاسب ،لا تنال بأعمال ولا بحيل ، وقل أن تأتي إلا بغتة ، كما أشار إلى ذلك في أول الباب الثامن فقال:
قال القشيري : الوارد هو ما يرد على القلوب من الخواطر المحمودة مما لا يكون للعبد فيه تحمل . والواردات أعم من الخواطر ، لأن الخواطر تختص بنوع خطاب أو ما تضمن معناه ، والواردات تكون وارد سرور ، ووارد حزن ، ووارد قبض ، ووارد بسط ،إلى غير ذلك من المعاني وهو قريب من الحال .
والمراد به هنا نوع خاص وهو نفحات إلهية يهب نسيمها على القلوب والأرواح أو الأسرار فتغيب القلوب في حضرة علام الغيوب وتغيب الأرواح والأسرار في جبروت العزيز الجبار ، فتطيش فرحاً وسروراً وترقص شوقاً وحبوراً. وقل ما تكون هذه الواردات الإلهية إلا بغتة ، لأنها لا تنال باكتساب وإنما هي فتح من الكريم الوهاب ، ولو كانت تنال بجد واجتهاد لادعاها العباد والزهاد ، بوجوب التأهب والأستعداد ، فتصير حينئذ مكاسب ، والأحوال والواردات إنما هي مواهب ، "يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ" .
ثم إن هذه الواردات الإلهية والمواهب الإختصاصية أسرار من الكريم الغفار لا يمنحها إلا لأهل الصيانة والأمانة ، لا لأهل الإفشاء والخيانة ، كما أشار إلى ذلك بقوله :
(من رَأَيْته مجيباً عَن كل مَا سُئِلَ،ومعبراً لكل مَا شهد، وذاكراً لكل مَا علم، فاستدل بذلك على جَهله)
أما وجه جهله في كونه مجيباً عن كل ما سئل فلما يقتضيه حاله من الإحاطة بالعلوم ، وقد قال تعالى : "وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا" فأي جهل أعظم ممن يعارض كلام الله ولما فيه أيضاً من التكلف ، وقد قال تعالى :" قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ " وقال عليه الصلاة والسلام :" أنا وأتقياء أمتي برآء من التكلف " .
ولا يخلو صاحب التكلف من التصنع والتزين ، وهو من شأن الجهل بالله ، إذ لو كان عالماً به لاكتفى بعلمه وعرف قدره ، وأيضاً إجابة كل سائل جهل وضرر إذ قد يكون السائل متعنتا لا يستحق جواباً ، وقد تكون المسئلة التي سأل عنها لا تليق به لأنه لا يفهمها ولا يطيق معرفتها فتوقعه في الحيرة أو الإنكار ,وقد قال عليه الصلاة والسلام :"لا تؤتوا الحكمة غير أهلها فتظلموها ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم".
وأما وجه جهله في كونه معبراً عن كل ما شهد من الكرامات ، وما وصل إليه من المقامات وما ذاقه من الأنوار والأسرار فلأن هذه الأمور أذواق باطنية وأسرار ربانية لا يفهمها إلا أربابها ، فذكرها لمن لا يفهمها ولا يذوقها جهل بقدرها . وأيضاً هي أمانات وسر من أسرار الملك وسر الملك لا يحل إفشاؤه ، فمن أفشاه كان خائناً وأستحق الطرد والعقوبة ، ولا يصلح أن يكون أميناً بعد ذلك ، فكتم الأسرار من شأن الأخيار، وهتك الأسرار من شأن الأشرار، وفي أفشائها قلة عملها ونفعها في الباطن ففائدة هذه الأحوال والواردات اإلهية هي محو الحس وإظهار المعنى أو محو الشك وتقوية اليقين ، فإذا أفشاها ضعف أعمالها وقلت نتيجتها والخير كله في الكتمان . في الحديث : استعينوا على قضاء حوائجكم بكتمانها .
وأما وجه جهله في كونه ذكراً لكل ما علم من الحقائق والعلوم والمعارف فلأنه جهل قدرها وأستخف شأنها ، فلو كانت عنده رفيعة عزيزة ما أفشاها لغيره ، إذ صاحب الكنز لا يبوح به وإلا سلبه من ساعته .
ومن شأن العامة تعظيم صاحب الكرامة فيجني ثمرة علمه وعمله في هذه الدار الفانية ، وتفوته درجات الصديقين في تلك الدار الباقية ، فأمره بكتمها ، ويقنع بعلم الله ، ويدخر الجزاء عليها ليوم لقاء الله ، وعلى ذلك نبه بقوله :