آخر الأخبار

جاري التحميل ...

إيقاظ الهمم في شرح الحكم (26)

(الرَّجَاءُ مَا قَارَنَهُ عَمَلٌ ، وَإِلاَّ فَهُوَ أُمْنِيةٌ)


قال بعض العلماء : " الرجاء تعلق القلب بمطموع يحصل في المستقبل مع الأخذ في العمل المحصل له وأقرب منه طمع يصحبه عمل في سبب المطموع فيه لأجل تحصيله ". والأمنية إشتهاء وتمني لا يصحبه عمل ، فإن كان مع الحكم والجزم فهو تدبير وهو أتم قبحاً قاله الشيخ زروق . فمن رجا أن يدرك النعيم الحسي كالقصور والحور فعليه بالجد والطاعة والمسارعة إلى نوافل الخيرات ، وإلا كان رجاءه حمقاً وغروراً ، وقد قال معروف الكرخي رضي الله عنه :" طلب الجنة بلا عمل ذنب من الذنوب ، وارتجاء الشفاعة بلا سبب نوع من الغرور ، وارتجاء رحمة من لا يطاع جهل وحمق " ومن كان رجاءه تحقيق العلوم وفتح مخازن الفهوم ، فعليه بالمدارسة والمطالعة ومجالسة أهل العلم المحققين العاملين مع تحليته بالتقوى والورع قال تعالى : ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ) فإن فعل هذا كان طالباً صادقاً وإلى ما رجا واصلاً ، وإلا كان باطلاً وبقي جاهلاً ، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم :" إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ ، وَإِنَّمَا الْحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ ، وَمَنْ يَتَحَرَّ الْخَيْرَ يُعْطَهُ ، وَمَنْ يَتَّقِ الشَّرَّ يُوقَهُ " والذي تفيده التقوى ، إنما هو فهم يوافق الأصول ويشرح الصدور ويوسع المعقول ، ومن كان رجاءه الوصول إلى إدراك المقامات وتحقيق المنازلات ومواجيد المحبين وأذواق العارفين ، فعليه بصحبة الفحول من الرجال أهل السر والحال بحط رأسه وذبح نفسه والأخذ فيما كلفوه به من الأعمال مع الذل والافتقار والخضوع والانكسار ، فإن زعم أنه لم يجدهم فليصدق في الطلب فسر الله كله في صدق الطلب ، وليستغرق أوقاته في ذكر الله وليلتزم الصمت والعزلة وليحسن ظنه بالله وبعباد الله فإن الله يقيض له من يأخذ بيده ، إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ ، وقد ثبت أن حقائق علوم الصوفية منح إلهية ومواهب إختصاصية لا تنال بمعتاد الطلب فلزم مراعاة وجه ذلك وهو ثلاث : أولها : العمل بما علم قدر الإستطاعة. الثاني : اللجاء إلى الله على قدر الهمة. الثالث : إطلاق النظر في المعاني حال الرجوع لأصل السنة فيجري الفهم وينتفي الخطأ ويتيسر الفتح. وقد أشار الجنيد رحمه الله تعالى إلى ذلك بقوله :"ما أخذنا التصوف عن القيل والقال والمراء والجدال ، وانما أخذناه عن الجوع والسهر وملازمة الأعمال" . وفي الخبر عنه عليه الصلاة والسلام : "مَنْ عَمِلَ بِما عَلِمَ أَوْرَثَهُ الله عِلْمُ ما لَمْ يَعْلَمْ" وقال أبو سليمان الداراني رضي الله عنه :"إإذا اعتقدت النفوس على ترك الآثام، جالت في الملكوت، ثم عادت إلى ذلك العبد بطرائف الحكمة، من غير أن يؤدي إليها عالم علمًا" فمن رجا أن يدرك هذه الأمور المتقدمة وشرع في أسبابها وتحصيل مباديها كان علامة على نجح مطلبه وكان رجاؤه صادقاً ، ومن طمع فيها من غير أن يأخذ بالجد في أسباب تحصيلها كان أمنية أي غروراً وحمقاً ، وكان الحسن رضي الله عنه يقول :" يا عباد الله اتقوا هذه الأماني فأنها أودية النوكي يحلون فيها فو الله ما أتى الله عبداً بأمنية خيراً في الدنيا والآخرة" والنوكي بفتح النون جمع أنوك وهو الأحمق ، ولما كان من رجا شيئاً وطمع فيه الغالب أنه يطلبه ، بين الشيخ خير ما يطلبه العبد ويرجوه فقال :

(مَطْلَبُ الْعَارِفِينَ مِنَ اللهِ تَعَالَى الصِّدْقُ فِى الْعُبُودِيَّةِ وَالْقِيَامُ بِحُقُوقِ الرُّبُوبِيَّةِ) 


أي مطلوب العارفين ومقصودهم أو محل قصدهم ومحل نظرهم إنما هو تحقق الصدق في العبودية بحيث لا تبقي فيهم بقية ، إذ المكاتب عبد ما بقي عليه درهم ، فما دام العبد مسجوناً بمحيطاته محصوراً في هيكل ذاته لا تنفك عنه الحظوظ ، إما دنيوية أو أخروية فلا تتحقق عبوديته لله وفيه عبودية لحظوظه وهواه ، فلا يكون صادقاً في عبوديته وهو مملوك لحظ نفسه ، فإذا قال أنا عبد الله نازعته حظوظه وهواه ، فلا تتحقق عبوديته لله حتى يتحرر من رق الأكوان ويتحقق بمقام الأحرار من أهل العرفان فحينئذ يكون سالماً لله حراً مما سواه ، قال الله تعالى : (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا) أي لا يستويان أبداً إذ العبد الخالص لسيد واحد يكون أحظي وأعز وأقرب من العبد المشترك ، وكذلك العبد الخالص لله أحظي بمحبة مولاه وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تعس (أي خاب وخسر) عبد الدينار تعس عبد الدرهم تعس عبد الخميصة تعس عبد الخميلة إن أعطي رضي وإذا لم يعط سخط تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش " أي إذا أصابته شوكة فالله لا يخرجها منه بالنقش عليها وهو دعاء على من حظه هواه بالتنكيس وعدم الخروج مما يقع فيه ، وقال أبو سليمان الداراني رضي الله عنه :" شتان بين من همه الحور والقصور ، وبين من همه الحضور ورفع الستور " ولأجل هذا كان مطلب العارفين إنما هو التحقق بالعبودية لمولاهم بالتحرر من رق هواهم ، والقيام بوظائف الربوبية بالأدب والتعظيم والإجلال لمولاهم وهما متلازمان ، فمهما تحقق الصدق في العبودية إلا حصل القيام بوظائف الربوبية ، فإن النفس إذا ماتت بترك حظوظها حييت الروح ، وإذا حييت الروح عرفت ، وإذا عرفت أذعنت وخضعت لهيبة الجلال ، وهذا هو القيام بحقوق الربوبية وهو مراد العارفين ومقصود السائرين ومحط نظر القاصدين والطالبين ، قيل لبعضهم :" ما مراد العارف ؟ قال : مراد معروفه " أي لا يريد إلا ما أراد سيده ، ولا يتمنى إلا ما يقضيه عليه مولاه ، وقيل لبعضهم :" ما تشتهي ؟ قال : ما يقضي الله " فبهذا يتحقق للعارف فناؤه وبتحقيق فنائه يتحقق بقاؤه . فإذا طلب العبد من مولاه ما هو طالبه منه من استقامة ظاهره بالنهوض إلى كمال الطاعات والحزن على ما سلف من الغفلات ، واستقامة باطنه بمعرفة معبوده والفناء في شهوده ، فيكون ظاهره قائماً بوظائف العبودية وباطنه متحققاً بحقوق الربوبية ، ثم إذا أحس بإجابة المطلب وحصول المنى والمرغب فرح قلبه وانبسطت روحه حيث شمت نسيم الإقبال وروح الوصال ، فربما يقبضها البسط عن شهود مولاها فيخرجها منه إلى القبض ثم يرحلها عنهما إليه كما أشار الشيخ إلى ذلك بقوله :ذ

(بَسَطَكَ كَىْ لاَ يُبْقِيكَ مَعَ الْقَبْضِ ، وَقَبَضَكَ كَىْ لاَ يَتْرُكَكَ مَعَ الْبَسْطِ ، وَأَخْرَجَكَ عَنْهُمَا كَيْ لاَ تَكُونَ لِشَىْءٍ دُونَهُ) .


البسط فرح يعتري القلوب أو الأرواح ، إما بسبب قرب شهود الحبيب أو شهود جماله أو بكشف الحجاب عن أوصاف كماله وتجلي ذاته أو بغير سبب ، والقبض حزن وضيق يعتري القلب إما بسبب فوات مرغوب أو عدم حصول مطلوب أو بغير سبب ، وهما يتعاقبان على السالك تعاقب الليل والنهار ، فالعوام إذا غلب عليهم الخوف أنقبضوا وإذا غلب عليهم الرجاء انبسطوا ، والخواص إذا تجلى لهم بوصف الجمال انبسطوا وإذا تجلى لهم بوصف الجلال انقبضوا ، وخواص الخواص استوى عندهم الجلال والجمال فلا تغيرهم واردات الأحوال لأنهم بالله ولله لا لشيء سواه ، فالأولون ملكتهم الأحوال وخواص الخواص مالكون الأحوال ، فمن لطفه بك أيها السالك أخرجك من الأغيار ودفعك إلى حضرة الأسرار ، فإذا أخذك القبض وتمكن منك الخوف وسكنت تحت قهره وأنست بأمره أخرجك إلى البسط لئلاّ يحترق قلبك ويذوب جسمك ، فإذا حبسك البسط وفرحت به وأنست بجماله قبضك لئلا يتركك مع البسط فتسيء الأدب وتجر إلى العطب إذ لا يقف مع الأدب في البسط إلا القليل ، هكذا يسيرك بين شهود جلاله وجماله ، فإذا شهدت أثر وصف الجلال انقبضت وإذا شهدت أثر وصف الجمال انبسطت ، ثم يفتح لك الباب ويرفع بينك وبينه الحجاب فتتنزه في كمال الذات وشهود الصفات فتغيب عن أثر الجلال والجمال بشهود الكبير المتعال ، فلا جلاله يحجبك عن جماله ولا جماله يحجبك عن جلاله ولا ذاته تحبسك عن صفاته ولا صفاته تحبسك عن ذاته ، تشهد جماله في جلاله وجلاله في جماله ، وتشهد ذاته في صفاته وصفاته في ذاته ، أخرجك عن شهود أثر الجلال والجمال لتكون عبد الله في كل حال ، أخرجك عن كل شيء لتكون حراً من كل شيء وعبداً له في كل شيء ، قال فارس رضي الله عنه :" القبض أولاً ثم البسط ثانياً ثم لا قبض ولا بسط لأن القبض والبسط لمعان في الوجود وأما مع الفناء والبقاء فلا " واعلم أن القبض والبسط لهما آداب ، فإذا أساء فيهما الأدب طرد إلى الباب وإلى سياسة الدواب ، فمن آداب القبض : الطمأنينة والوقار والسكون تحت مجاري الأقدار والرجوع إلى الواحد القهار ، فإن القبض شبيه بالليل والبسط شبيه بالنهار ، ومن شأن الليل الرقاد والهدوء والسكون والحنو ، فاصبر أيها المريد واسكن تحت ظلمة ليل القبض حتى تشرق عليك شموس نهار البسط ، إذ لا بد لليل من تعاقب النهار ولا بد للنهار من تعاقب الليل ، يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ، هذا آداب القبض الذي لا تعرف له سبباً ،وأما إن عرفت له سبباً فارجع فيه إلى مسبب الأسباب ، ولذ بجانب الكريم الوهاب ، فهل عودك إلا حسناً ، وهل أسدى إليك إلا منناً ، فالذي واجهتك منه الأقدار هو الذي عودك حسن الاختيار ، فالذي أنزل الداء هو الذي بيده الشفاء ، يا مهموم بنفسه لو ألقيتها إلى الله لاسترحت ، فما تجده القلوب من الأحزان فلأجل ما منعته من الشهود والعيان . والحاصل أن سبب القبض إنما هو النظر للسوى والغفلة عن المولى ، وأما أهل الصفا فلا يشهدون إلاّ الصفا ، ولذلك كان عليه الصلاة السلام يقول :( من أصابه هم أو غم فليقل الله الله لا أشرك به شيئاً فإن الله يذهب همه وغمه) أو كما قال عليه السلام ، فانظر كيف دل عليه الصلاة والسلام المقبوض إلى الدواء وهو شهود التوحيد والغيبة عن الشرك ، فدلنا صلى الله عليه وسلم على القول والمراد منه المعنى، فكأنه قال اعرفوا الله ووحدوه ينقلب قبضكم بسطاً ونقمتكم نعمة ، وكذلك في حديث آخر قال :" ما قال أحد (اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ، ابْنُ عَبْدِكَ، ابْنُ أَمَتِكَ، نَاصِيَتِي بِيَدِكَ، مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ، أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ، أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي، وَنُورَ صَدْرِي، وَجَلَاءَ حُزْنِي، وَذَهَابَ هَمِّي) إلا أذهب الله همه وغمه وأبدل مكان همه فرحاً وسروراً " فدلهم أولاً في الحديث الأول على شهود الربوبية ، وفي الحديث الثاني على القيام بوظائف العبودية ، وهو الصبر والرضى إذ من شأن العبد أن يصبر على أحكام سيده ويسلم ويرضى لما يجريه عليه من أوصاف قهره . ومن آداب البسط ، كف الجوارح عن الطغيان وخصوصاً جارحة اللسان فإن النفس إذا فرحت بطرت وخفت ونشطت فربما تنطق بكلمة لا تلقي لها بالأ فتسقط في مهاوي القطيعة بسبب سوء أدبها ، فإذا أحس المريد بالبسط فليلجم نفسه بلجام الصمت وليتحل بحلية السكينة والوقار وليدخل خلوته وليلتزم بيته ، فمثل الفقير في حالة البسط والقوة كقدر غلى وفار فإن تركه يغلي اهراق إدامه وبقي شاحتاً وإن كفه وأخمد ناره بقي إدامه تاماً ، كذلك الفقير في حالة القوة والبسط يكون نوره قوياً وقلبه مجموعاً ، فإذا تحرك وبطش وتتبع قوته برد ورجع لضعفه ، وما ذلك إلا لسوء أدبه والله تعالى أعلم . ولأجل هذا كان العارفون يخافون من البسط أكثر من القبض .


التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية