علم الحقيقة بين النشر والكتمان وبين إصلاح الظاهر بإصلاح الباطن ، وإصلاح المجتمع ثم الأمة بإصلاح الفرد .
إزّاء ما تقدّم من العلم الكسبيّ ، الذي يعتمد على الطاقة الفكريّة ، وينطلق أساسا من القوّة العقلية ّ والذي على أساسه تقوم القواعد والقوانين ، وعلى اعتباره يترتب العقاب والجزاء ، وبه تعطى الحقوق وتؤخد ، كما تقدّم ، يقوم في باطن الذاكر ، الذي طهُر قلبه وصفت سريرته جانب آخر ممّا يعرف بالعلم اللّدنيّ الوهبيّ ، الذي ينبت في أرض الفطرة والرحمة ، وسلامة الباطن من الأكداروالأغيار والأحقاد .. ويفيض عن الأرواح الطيّبة الطّاهرة ، ويأتي هبة من لدن الله ، الذي يعطي ما شاء لمن شاء : كيف شاء ، ومتى شاء ... كما يشير إليه القرآن في قصّة نبي الله موسى وفتاه مع العبد الصالح ، الذي قال الله في شأنه :(وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا قَالَ لَهُ مُوسَىٰ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا ) فقد كان ذلك مصدر العلم اللّدني ، الوهبيّ الغيبيّ ، الذي معلّمه - روحيّا وغيبيّا -هو الحق سبحانه وتعالى.
وفي موضوع هذا العلم ما روي عن الصحابيّ أبي ذر الغفاري أنّه قال :"لقد تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم وما يحرّك طائر جناحَه في السماء إلاّ ذكرنا معه علما" كما تقدم . وهذا النوع من العلم قد لا يكون إلاّ من قبل ما يعرف عند أصحاب الحقيقة الصوفيّة بعلم الأذواق ، والتفسير بالإشارة ، ويعيشه أصحاب القلوب المنوّرة والأرواح الشفّافة ، وقال فيما يرى فيه الخصوصيّة :"لو تعلمون ما أعلم ما انبستُم إلى نسائكم ، ولا تقارَرتم على فُرشكم" ممّا يفسر عندهم بعلم الحقائق الغيبيّة ، التي فوق العقل والمنطق ، ويجب كتمانها ، كي لا يُفتن الناس بما لا تهضمه عقولهم ، أو يخاطبون بما لا يفهمون ، أو لا تستسيغه عقولهم ، فينكرون ويكذّبون الحقائق الثابتة لله ولرسوله.. والمعنى انصبَّ على ما يجب كتمانه . وإلاّ فمن ذا الذي منعه من أن يعلّم الناس ما يعلم . وقد نصب نفسه واعظا ومرشدا ومحدّثا. وهو من علماء الصحابة ومجتهديهم. فيه قال محمد الحجوي :"هو الذي نشر العلم والدّين بالشّام"(79) ونبيه صلى الله عليه وسلّم يقول : « من عَلمَ علماً وكَتَمَهُ أَلْجَمَهُ اللَّهُ بِلِجَامٍ مِنْ النَارٍ» ما لم يكن مما يجب كتمانه سدّاً للذريعة. واللّفّ والنشر في العلم يرتبط بالمصلحة.
وفي نفس الخطّ والاعتبار ، أخرج البخاري تحت "باب من خصَّ بالعلم قوما دون قوم كراهية أن لا يفهموا" حديثا موقوفا عن عليّ بن أبي طالب. ذكر رشيد رضى أنّ الدَّيلمي أخرجه عنه في "مسند الفردوس" مرفوعا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال :« حَدِّثوا النَّاسَ بِمَا يَفهمونَ، أَتُحبّون أَن يُكَذَّب اللَّهُ وَرَسُولُهُ؟ » وفي رواية « حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؟»(80) يعرفون من العرف ، ويعني الفهم المشترك المتعارف عليه عند عامّة الناس . قال رشيد رضى في تعليقه على الحديث "ما يعرفون ضدّ ما ينكرون ، لا ضدّ ما ما يجهلون أي حدّثوهم بما تصل عقولهم إلى فهمه ، دون ما يعزّ عليها ، فيعدّ منكرا ومحالا"(81) والنص صدر في عصرالصحابة. حيث سلامة الصدور ، وقوّة الإيمان بالغيب ، وما يصدر عنه.. أمّا اليوم وقد غلبت الغفلة عن اليقظة ، والعقلانيّة عن الفطرة ، والشكّ عن اليقين ، وضعفت قوة الإيمان بالغيب وما يصدر عنه ، فالحديث يعني عصرنا أكثر ما يعني عصر الإمام عليّ بن أبي طالب الذي رواه.
وأخرج مسلم عن عبد الله بن مسعود مرفوعا أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال :« مَا أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لاَ تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إِلاَّ كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةً » قال ابن وهب :"وذلك أن يتأوَّلوه ، ويحملوه على غير وجهه" وروى الإمام الشاطبي عن كثير بن مُرّة الحضرمي أنّه قال :"إنّ عليك في علمك حقا ، كما أنّ عليك في مالك حقاّ : لا تحدّث بالحكمة عند السفهاء ، فيكذّبوك ، ولا تحدّث بالباطل عند الحكماء فيمقتوك"(82) فكان لكل صنف منهاجه وخطابه ، ومكانته في المدركات.. والحكمة تشرح بالعلم ، إلاّ أنّها أميل بالمعنى إلى العلم الوهبيّ أكثر من الكسبيّ.
نظير كتمان أبي ذر لهذا الجانب من العلم ، ما رواه البخاري وغيره عن أبي هريرة ، يقول :"قد حملت عن خليلي وعاءين من العلم : "أَمَّا أَحَدُهُمَا فَقد بَثَتُهُ ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَلَوْ بَثَتُهُ لقُطِعَ منّي هَذَا الْبُلْعُومُ ، وأشار بيده إلى حلقه " وسيأتي أن الحلاّج قُطع بلعومه بسبب بثّ مثل ما في الوعاء المكتوم . وفيه نقل أحمد بن عجيبة عن بعضهم أنه قال :
ومـن شَهِدَ الحقيقَة فَـلْيَصُنْها
وإلاّ سَوفَ يُقْتَــلُ بالـــسِّــنَانِ
كَــحَلاّجِ المـحبَّـة إذْ تَــبَـــــدَّتْ
لَهُ شَمسُ الحَقيقَةِ بالتّدَاني
وقد رأى العقلانيّون الذين لا يؤمنون بما يصدر عن الغيب ، ولا يعرفون إلا الاستنتاجات الفكريّة ، أنّ الأمر في كتمان أبي هريرة يتعلّق بسرّ الأحداث السياسيّة ، التي عرفها عهد عثمان ومعاوية ، المنتهية بالفتنة الكبرى ، وأنّ الكتمان كان خوفا من رجال السلطة . على الرّغم من أنّ وعائين من العلم : علم الشريعة ، الذي روَى فيه عن الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر من ألف حديث ، وبثَّه في الناس ، وعلم الحقيقة الذي كتمه ، حفاظا على توازن المجتمع ، واعتبار الشريعة للعموم ، والحقيقة للخصوص ، تجاوبا مع النصوص السابقة ، خاصة « حَدِّثوا النَّاسَ بِمَا يَفهمونَ، أَتُحبّون أَن يُكَذَّب اللَّهُ وَرَسُولُهُ؟ » لا مكان فيهما لمزاعم العقلانييّن ، خصوصاً أنَّ لفظ العلم بنَوعيْه لا يحتمل المشاكل السياسيّة.. والسياسة ليست بعلم المفهوم الشرعيّ أو الحقيقيّ . وقد عرَّفوها بالدّيماغوجيّة تعني المواربة على حساب المصارحة .
بينما يرى أصحاب المعاني الباطنيّة ، والحقائق القلبيّة ، المطلّون بأرواحهم على عالم الغيب ، أنّها من كيريات الحقائق الكونية الغيبيّة ، التي تنكشف لمن فنى عن وجوده المادّي ، وخرج بقلبه من كثافة المادّة ، وغفلة النفس وظلمتها ، وأطلَّ بروحه وبصيرته على عالم الأرواح : عالم ما فوق العقل والمنطق . فكان حملها من روحانية الرسول صلى الله عليه وسلم الذي هو مصدر الحقائق الغيبيّة والشرعيّة ، كما تجلّى في قول الإمام الجنيد :"الطُّرُقُ كُلُّهَا مَسْدُودَةٌ عَلَى الْخَلْقِ ، إِلا مَنِ اقْتَفَى أَثَرَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم" والكتمان لم يكن خوفا من رجال السلطة ، كما قال من زاغ به الفكر عن جادّة الصواب ، وإنما كان خوفا من التكذيب والمعارضة والإنكار ، وخلق بلبلة اجتماعيّة ، عملا بقول الرسول حَدِّثوا النَّاسَ بِمَا يَفهمونَ، أَتُحبّون أَن يُكَذَّب اللَّهُ وَرَسُولُهُ؟ ومن خالف ، وخاطب الناس بما لا يفهمون ، يتحمّل وِزرما سبّبَه من تكذيب الله والرسول صلى الله عليه وسلم .
وإذا طلب الكتمان في مجتمع يغلب عليه التّصديق وسلامة الصدور ، كما تقدّم فهو اليوم أشدُّ إلحاحاً . ونحن في مجتمعات يغلب عليها الإنكار ، خاصة من بعض أدعياء العلم ، الذين لا يبحثون ليفرّقوا بين الحقّ والباطل ، وبين المعروف والمنكر ، ولا يصدّقون غير عقولهم المحدودة الإدراك.. وإنما يعاندون جهلا ، ويكون على غير علم ، حتى أصبح الإنكار عند البعض احترافا يكتب فيه ، ويسترزق بسببه.. ومن جهلهم أنّهم يعادون قوما ، من بينهم من قال الله في شأنهم : « مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ » وهم لا يدرون باطنيّا من هو ؟ فيضرّون أنفسهم ، ولا يضرون من آذن الله بحرب من آذاهم . وفيهم يصدق المثل العربيّ " أَجهَلُ من عَقرَب " لأنّها إذا مرّت بالصخرة ضربتها بإبرتها ، فلا تضرّها وتضرُّ إبرَتها ، وفي مثل آخر "أَجْهَلُ مِنْ فِراشَةٍ" للأنها تتهافت حول السراج فتهلك . إنّها تتهافت -جهلا- حول السراج الحسيّ ، فتهلك هلاكا ماديّا ، والمُنْكِر للحقيقة الإلهية يتهافت -جهلا- حول السراج النورانيّ الربَّاني ، فيهلك هلاكا معنويّا.. أهونه أن يحرم من الحقيقة ، ومن فضل أصحابها ، إذ لا يستفيد من شيء أنكر وجوده . والحقيقة الإلهيّة شمس معنويّة ، لا يحرم من نورها إلاّ المنكرون لوجودها.
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الدّيلميّ والسّلميّ والمنذريّ حول علم الحقيقة ، عن أبي هريرة أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إِنَّ مِنَ الْعِلْمِ كَهَيْئَةِ الْمَكْنُونِ ، لا يَعْرِفُهُ إِلا الْعُلَمَاءُ بِاللَّهِ ، وإِذَا نَطَقُوا بِهِ لَمْ يُنْكِرْهُ إِلا أَهْلُ الْغِرَّةِ بِاللَّهِ عَزَّ وجَلَّ » (84) وما أكثرهم في هذا العصر ، ومن علاماتهم أنّهم أكثر النّاس مجاحدة ومجادلة.. ولا ينبغي ضياع الوقت في الردّ عليهم . ما دام اختصاصهم قول على قول . وقد ندمنا على ما ضاع في محاولة إقناع البعض ، وهم لا يقتنعون بحال من الأحوال .
يقال : الوقت من ذهب.. والوقت كالسّيف ، إذا لم تقطعه قطعك.. والظروف التي يعيشها العالم تفرض إنفاق الوقت في الأعمال الإيجابيّة ، دينا ودنيا ، وليس في المهاترات.. وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عم القيل والقَال وإضاعة المال . ومن باب إضاعة المال بطريقة غير مباشرة إضاعة قيم الأعمال ، بضياع أوقاتها في القيل والقال ، ممّا لا ينفع لا في الدنيا ولا في الآخرة ، إضافة إلى ارتكاب المخالفة في الاشتغال بما نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم ومن ثَمَّ ، فعلم الحقيقة الغيبيّة الواجب كتمانها ، عن العقلانيّين والماديّين ، من حقّ اصحاب القلوب الطيّبة الطّاهرة ، الذين خرجوا بأرواحهم من الكثافة الماديّة ، وعاشوا المعاني السامية الخالدة ، وليس - فهما وذوقا وتصديقا - من حق الملاحظين ، ممن مرضوا بهوس الإنكار ، واحترفوا مهنة الجدال العقيم . والحلّ أن يجابوا بما تقدّم أن أجاب به الشيخ الحَضري ، لمّا نشر بحثا ، فقيل له : إنّ البعض يلاحظ على ما كتبت ، فأجاب :"لم أكتب للملاحظين ، وإنّما كتبت لغيرهم".
فكان على الباحث أن ينصت إلى المتخصّصين ، والمرادين ببحثه ، ويقبل الملاحظات العلميّة البنّاءة ، مع الحفاظ على المستوى العلميّ وقيمته ، خاصة أن من يبحث عن الشهرة ، ليرقّع بها خصاصته في العلم ، يرغب في الردّ عليه . وقد نسب إليّ شاب اختصاصه في المقاولات ، وترامَى على الكتابة في الدراسات الإسلاميّة ، ما لم أقل في موضوع الربا ، فقلت له : إنّك حرَّفت رأيي ، فقال : ردَّ عليّ لنخدم العلم ، فقلت : النزول إلى مستوى الردّ عليك يفسده . وإذا كان هذا الموقف بالنسبة لمن يخوض في الفقه ، الذي يدرك بالعقل والجهد والعمل ، فالبنسبة لمن يخوض في الحقيقة الإلهيّة الغيبيّة ، التي تَعرف الأرواح وتَجهل العقول أشدّ.. إنّ الحقيقة القلبيّة أخفى وأعمق ممّا يتصوّره من لا يعرف إلا الفكر ، والفكر من نتائج العقل ، والعقل هو الامتداد الطبيعي للحواس . وموضوعه هو المادّة ، كما سيأتي في كلام الفيلسوف الأمريكي "برجسون" .
** ** **
79 - الفكر السامي في تاريخالفقه الاسلامي 141/1
80 - البخاري : نسخة الفتح 163/1
81 - الاعتصام 14/2
82 - الاعتصام 14/2
83 - الفتوحات الالهية في بعض المباحث الأصلية 259
84- الترغيب والترهيب 143/1