وفي موضوع الفناء ، الذي به تزول الغفلة عن القلب ، ويكشف الحجاب عن البصيرة ، وترى ما لا يراه الناظرون ، يروي أبو نعيم في "حلية الأولياء" أنّ الصحابي أبا ذر الغفاريّ كان أول من تكلّم في علم الفناء والبقاء ، الذي يعتبر أصلا من أصول هذا العلم ، والذي يرى فيه سلما ، بدونه لا يرقى إلى إلى معرفة سرّ هذا الوجود.. والفناء والبقاء في باطن الذاكر وشعوره ووجدانه ، يعني فناء الحسّ المادّي ، الذي هو منشأ الغفلة والظلمانيّة والنزوات النفسيّة ، التي قد تجمح بالنفس نحو المخالفات الشرعيّة ، التي من طبيعة الغافلين عن الله ، والبقاء يعني بقاء الجانب المعنويّ الروحانيّ ، الذي هو منشأ اليَقَظَة القلبيّة ، ومصدر المعاني الساميّة الخالدة ، التي لا تفنى بفناء هذا الوجود . وعندها يصبح قلبه محطّ التجلّيات الإلهيّة ، والمعارف الربانيّة.. ومن ثمَّ فالإنسان قد يكون مصدر الخير ، إذا تغلّب فيه الجانب المعنويّ على الماديّ ، وبالعكس قد يكون مصدر الشرّ ، إذا تغلّب الجانب الماديّ على المعنويّ ، والصالحون المصلحون هم الذين فنوا عن وجودهم الماديّ الوهميّ ، وعاشوا للمعنويّ الحقيقيّ . وإذا صحَّ أن يفنى الجانب الماديّ ، ويقال : إنسان معنويّ ربانيّ ، صحَّ بالمقابل أن يفنى الجانب المعنويّ ، ويقال : إنسان ماديّ مصلحيّ . وأقلّ ما يجب هو التوازن بين المادّة والرّوح ، كي يتحقّق قول ابن عمر : "اعمل لدنياك كأَنَّك تعيش أبداً ، واعمل لآخرتك كأنَّكَ تموت غداً" .
وإذا كان علم الأرزاق يعتمد على المناهج ، وتعرف له مختلف الاتجاهات ، فعلم الأذواق فيوضات ربانيّة ، وأسرار نورانيّة ، ومعارف إلهيّة ، تودع القلوب الطاهرة طهارة معنويّة ، وتنبعث من الشعور والوجدان ، فتنمُّ عن صلاح الباطن ، الذي لا يصلح الظاهر إلاّ بصلاحه ، وقد ضرب الرسول صلى الله عليه وسلّم لصلاح الظاهر بصلاح الباطن مثلا أعلى ، فقال في آخر حديث النُّعمَان بن البشير المتفق عليه : (أَلا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً ، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ ،أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ) .
والحديث لم يتناول في عمقه ، وترامي أبعاده الأعضاء الماديّة المحسوسة ، المتمثّلة في المُضغة كقطعة من اللّحم ، والجسم كعظم ولحم . الأمر الذي لم يكن من شأن الرسول صلى الله عليه وسلم . وإنّما يتناول المعاني ، ويضرب المثل للسريرة بالقلب لخفائه عن الأنظار ، وأهمية مركزه في توزيع الدم ، تشبيها بالقلب المعنويّ في توزيع سرّ الله ، كما ضربه لظاهر الأمربالجسم ، لظهوره وحسن أو سوء تعبيره عن حال القلب ، الذي يمدّ سلبا أو إيجابا.. فيكون المعنى أن من طهر قلبه وصفت سريرته ، وصلَح ما بينه وبين الله ، صلح بالتبعيّة كلّ من يصدر عنه من من الأعمال و الأقوال والأفعال والأخلاق والمعاملات... والعكس صحيح .
وعلى اعتبار أن صلاح المجتمع - دينيّا وخلقيّا واقتصاديّا واجتماعيّا ، وثقافيّا وعلميّا ، وإداريّا وقانونيّا - ينطلق من الفرد الصّالح ، كأوّل لبنة في بنائه ، فصلاح الفرد بالمفهوم الإسلاميّ قد لا يكون إلاّ بصلاح باطنه ، كما تقدّم . والذين يبدأون الإصلاح من الباطن من أجل إصلاح الظاهر ، ومن إصلاح الفرد من أجل إصلاح المجتمع ، الذي به تصلح الأمّة أو الدولة ، كما هو أسلوب المرسلين والأولياء والعارفين ، هم المصلحون بحق ، وهو منهاج ربانيّ محمديّ . قوامه الذكر وقراءة القرآن ، والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة ، وشرطه الصدق والإخلاص ، وحسن المعاملة والأخلاق الفاضلة ، وطابَعه السلم والمسالمة والملاينة ، والإخاء والوئام ، والصدق مع الله ، ومع عباده ، ومحبّة الخلق بمحبّة خالقهم ، كما تقدّم بعضه ، وقد احتج الإمام الشاطبيّ بقول النبي صلى الله عليه وسلم : (بُدئ الدّينُ غَرِيباً، وَسَيَعُودُ غَرِيباً كما بُدئَ ، فَطُوبى لِلْغُرَبَاءِ . قيلَ : ومن الغرباء يا رسول الله ؟ قال : الذينَ يُصلحُون عند فساد الناس) (85) وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلّم المصلحون يكونون غرباء في المجتمعات الفاسدة ، كما تجلّى في دعوات الأنبياء والمرسلين والأولياء والعارفين ، والدعاة إلى الله بحقّ.. لكن دعواتهم لا تعرف الانتكاس والفشل ؛ لأنها من الله وإليه. تقوم على منهاج ربانيّ . قوامه الحكمة والمسالمة.. وإذا كان في المجتمع الإسلامي اليوم من كان في حاجة إلى منهاج ربانيّ يقوم على الحكمة والمسالمة ، فإنه بعض الحركات الإسلامية ، التي رامت الإصلاح ، وتبنّت العنف.. واستعمال العنف يعني الفتنة ، ومن باب إصلاح الفساد بالفساد ، وإطفاء النار بالبارود .
وصلاح الظاهر والباطن المتجلّي في منهاج الرسول صلى الله عليه وسلّم من خلال ضرب المثل بحديث المضغة والجسم ، الذي يعتبر خلاصة الإسلام إذ الإسلام برمّته لا يخرج عن ظاهر وباطن . حيث قال : (أَلا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً ، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ ،أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ) صلاح تام كامل متكامل.. إنه صلاح ظاهريّ وباطنيّ ، ودينيّ وخلقيّ ، واقتصاديّ واجتماعيّ ، وثقافيّ وعمليّ ، وماديّ ومعنويّ ، وفرديّ وجماعيّ... وإذا فسَدَ جانب وقع خلل في العمل بمنهاج الرسول صلى الله عليه وسلّم ولعلّ أهمّ اعتراف اعترف به المرحوم الرئيس جمال عبد الناصر في حياته ، ونقله الدكتور حسن الأشموني في كتابه "التعبئة الروحيّة في بناء المجتمع" أنّه قال :" مِنَ السّهل أن نبني مصنعا كبيرا ، لكن من الصّعب أن نُكَوٍّنَ فرداً صالحاً يَعمَل فيه" ومن هنا تبدأ أهمية الأسلوب الصوفيّ في الالتزام بمنهاج الرسول صلى الله عليه وسلّم الشّامل المتكامل في كلّ نواحي الصلاح ، ما بين الظاّهر والباطن.
وإذا كثر التشكّي ممّا يصيب المصانع والشركات والمؤسسات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ، وفوقها ما يصيب الجانب الدينيّ والخلقي... فمن ههنا . والتجربة قائمةعلى أن القلب - خاصة في الصدق والإخلاص ، ومراقبة الله في غيبة عن البشر ، التي أساس النجاح في أيّ عمل -هو صاحب الإمدادات الظاهرة والباطنة يمدّ بالصلاح عند صلاحه ، وبالفساد عند فساده . فكان من الطبيعيّ أن تنجح مؤسسة يعمل فيها الصالحون ، وتشلّ الحركة في أخرى يعمل فيها الفاسدون . وقد كان الخليفة عمر يعتبر الصلاح في الدّين مقياس الصلاح في الدنيا ، ويرى أن من صلح لربه صلح لأمّته ، ويختار العمّال والولاة في الأقاليم على أساسه .
قال الإمام ابن تيمية تعليقا على حديث المضغة والجسم :" القلب هو الأصل ، فإذا كانت فيه معرفة وإرادة سرى ذلك إلى البدن بالضرورة . لا يمكن للبدن أن يتخلّف عمّا يريده القلب " (86) وقد أكّد ما أوضحناه في العلاقة بين الظاهر والباطن ، مما نقله عن سفيان بن عُيَينَة أنّه قال : " كان العلماء فيما مضى يكتب بعضهم إلى بعض بهذه الكلمات : من أَصلح سريرتَه ، أَصلَح الله علانيَته ، ومن أصلح ما بينه وبين الله ، أصلح الله ما بينه وبين الناس ، ومن عمل لآخرته ، كفاه الله أمر دنياه "(87) فكان الصلاح المتجلّي في المنهاج النبويّ يعني الإنسان الصالح بكل جوانبه : دينيّا وخلقيّا واقتصاديّا واجتماعيّا وعلميّا ... وهذا الاعتبار يقترب ممّا سمّاه الآخرون بالإنسان الكامل.. والكمال الإنسانيّ لا يكون إلاّ لمتكامل الصلاح . ومن ادّعى أنّه صالحا دينيا ، وهو فاسد اقتصاديّا وخلقيّا واجتماعيّا ومعاملة... فمدّعي الصلاح ، وليس بصالح . والصلاح بالمفهوم الإسلاميّ ، كما تجلّى في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلّم وسلوك أصحابه لا يتجزّأ ، ولا يعرف التناقض بين جانب وجانب.. والتناقض كثيرا ما أثَّرَ في مصداقية الناس في هذا العصر.
وقد أكّد الإمام ابن تيميّة ما أوضحناه من أنَّ الصلاح في الاعتبار الإسلاميّ كامل متكامل لا يتجزّأ ، فقال فيما ينقله عن الزّجّاج : " الصالح هو القائم بحقوق الله ، وحقوق عباده . ولفظ الصالح خلاف الفاسد ، فإذا أُطلق ، فهو الذي صلح جميع أمره ، فلم يكن فيه شيء من الفساد . فاستوت سريرته وعلانيته ، وأقواله وأعماله على ما يرضى ربَّه . وهذا يتناول النبيئين ومَن دونهم " (88) نقل ذلك عند تحليل قوله تعالى :(وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ) (89).
والفرق بين صلاح الظاهر والباطن ، أو بين علمَي الشريعة الظاهرة ، والحقيقة الباطنة ، الذي لمسنا ثاره في معارف الصحابة ، كما تقدّم عن أبي هريرة وأبي ذر الغفاري ، لم يكن مجرّد استنتاجات من رائهم ، كما لم يكن أثرا من آثار أصحاب الشّفوف والرّقاق . وإنّما نجد له أصلا ممّا تقدّم في جديث المضغة والجسم ، وفي روايات تقدّم أن رواها الحافظ المنذري في "الترهيب والترغيب" وقد فرّقت بين علم الظّاهر ، الذي به تقوم الحجَّة ، وتؤخد الحقوق وتعط ، ويترتّب الجزاء والعقاب ، وبين علم الباطن النافع في الوصول إلى كبريات الحقائق الكونيّة . وقد تقدّم أن روى جابر بن عبد الله الأنصاري وأنس بن مالك ، أن النبي صلىى الله عليه وسلم قال في رواية جابر :(العلمُ عِلمانِ : عِلمٌ في القَلْبِ ، وعِلمٌ علَى اللِّسَان . فَذاكَ حُجَّةُ اللهِ علَى بَني آدَم) وفي رواية أنس : (العلمُ عِلْمانِ : فعِلْمٌ ثابِتٌ في القَلْبِ ، فَذاكَ العِلْمُ النَّافعُ ، وعِلمٌ في اللِّسَان ، فَذاكَ حُجَّةُ اللهِ علَى عِبَادِهِ) والنّص صورة مقتبسة من الجديث . والمعنى أساسيّ يحتاج إلى تأكيد رواية وتطبيقا .
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلّم فالعلم الذي في القلب يضمن الصلاح لحامله ، وبه يدرك معرفة الله ، والعلم الذي في اللّسان حُجَّة بيد حامله ، تكون له أو عليه . ومعرفة الله من أسمى المعارف ، التي تكون في القلب . فهي أمّ المعارف ورأسها وسنمها إذ لا معرفة فوقها إلاّ أسرار الذّات العالية . وفيها يروي أبُو نُعَيم والتّرميذي ما احتجَّ به الإمام الشاطبي في "الاعتصام 2 / 13" قال : إن رجلا أتىَ النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله 'صلى الله عليه وسلم' أَتَيْتُكَ لتُعلّمني من غَرائب العلم ؟ فقال عليه السلام :( ما صَنعتَ في رَأْسِ العلْم ) قال : وما رَأس العلم ؟ قال : (عَرَفتَ الربّ ؟) قال : نَعَم ، قال : ( ما صَنَعتَ في حَقّه ؟ ) قال : ما شاءَ اللهُ ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم : (اذْهَبْ فَأَحْكِمْ مَا هُنَالك ، ثُمَّ تَعَالَ أُعَلِّمْكَ مِنْ غَرَائِبِ العِلْمِ) فكانت الإشارة إلى أنْ لا غرائب علم تطرح بجانب معرفة الله.. ولا ندري هل الرجل أدرك حقيقة معرفة الله ؟ أو ظنَّ أنَّ العقيدة هي المعرفة - كما يقع لبعض الناس اليوم - فأجاب بنعم ؟ إلاّ أنَّ قول النبي صلى الله عليه وسلّم : (اذْهَبْ فَأَحْكِمْ مَا هُنَالك ، ثُمَّ تَعَالَ أُعَلِّمْكَ مِنْ غَرَائِبِ العِلْمِ) يشير إلى أنّه لم يدرك حقيقة المعرفة ومستلزماتها ، ولو أدرك حقيقتها ، وسكنت في قلبه ، لمَا سأَلَ عن غريبة علميّة غيرها . فكان عليه أن يذهب ، ويصفّي الحسابات مع نفسه ، ويُحْكِم أسباب المعرفة في قلبه ، وإذا كانت من نصيبه ، فلن يعود لطلب غرائب العلم ؛ لأنّه سيشعر بعدها أنّه بقلبه وروحه وشعوره وجدانه غريبة من غرائب العلم .
** ** **
85 - الاعتصام 18/1
86 - الإيمان ص 155
87 - نفس المصدر ص 6
88 - نفس المصدر ص 47
89 - سورة النساء 69