قاعدة 111
ما خرج مخرج التعليم وقف على وجهه من غير زيادة ولا نقص
فلقد روي أن رجلاً كان يذكر في دبر كل صلاة :سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، مائة مرة من كل وأحد. فرأى كأن قائلاً يقول :(أين الذاكرون أدبار الصلوات؟ فقام، فقيل له: ارجع فلست منهم إنما هذه المزية على الثلاث والثلاثين، فكل ما ورد فيه عدد قصر عليه، وكذا كل لفظ) . نعم، اختلف في زيادة (( سيدنا )) في الوارد من كيفية الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، والوجه أن يقتصر على لفظه، حيث تعبد به ويزداد حيث ما يراد الفضل في الجملة. وقال ابن العربي في زيادة: (( وارحم محمداً)) انه قريب من بدعة، وذكره في العارضة، والله أعلم.
قاعدة 112
العبد لا يعاتَب على تقصير لا سبب له فيه
حق العبد أن لا يفرط في مأمور، ولا يعزم على محظور، ولا يقصر في مندوب فإن قصر به الحال حتى وقع في الأول، والثاني، والثالث، لزمه الرجوع لمولاهُ بالتوبة واللجأ والاستغفار. ثم إن كان ذلك بسبب منه، عاتب نفسه ولامها، وإن كان لا بسبب منه فلا عتب على قدر لا سبب للعبد فيه . وحديث ذلك في سؤال علي وفاطمة، إذ سألهما عليه السلام عن عدم صلاتهما بالليل، فأجابه علي بقوله :(( إن الله قبض أرواحنا فمر وهو يقول : وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً)) . ولما ناموا ليلة الوادي، حتى طلعت الشمس، قال عليه الصلاة والسلام: (( إن الله قبض أرواحنا )) وذلك أن علياً وفاطمة تسببا بوجود الجنابة، كما ذكره ابن أبي جمرة رحمه الله، فكان الجواب بالعذر وإن كان نفس الحق جدلاً [إذ سئلا] عن السبب، والصحابة في الوادي لم يتسببوا، بل وكلوا من يقوم لهم بالأمر من هو أهل للقيام به، فافهم.
قاعدة 113
ضرورة العزلة وفراغ القلب
فراغ القلب للعبادة والمعرفة مطلوب، فلزم الزهد وإسقاط الكلف، واختيار الأدنى، لأن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى. ومن المشغلات الأحداث سنا وعقلا أو دينا، فلهذا نهى عن صحبتهم إذ التلون مانع الراحة، ولذا أمر بمجانبة الصحبة وإيثار العزلة سيما في هذه الأزمنة. لكن بشرطها وهو كفاية عن الخلق، كفايتهم عنه في الضرورة دينا ودنيا، مع سلامتهم من سوء ظنه وإقامة الشعائر الإسلامية من الواجبات والسنن المؤكدة، والله سبحانه اعلم.
قاعدة 114
الخلوة أخص من العزلة وهو بوجوهها وصورتها نوع من الاعتكاف
الخلوة أخص من العزلة وهو بوجوهها وصورتها نوع من الاعتكاف، ولكن لا في المسجد، وبما كانت فيه. وأكثرها عند القوم لا حد له، لكن السنة تشير للأربعين بمواعدة موسى عليه السلام. والقصد في الحقيقة: الثلاثون، إذ هي أصل المواعدة، وجاور صلى الله عليه وسلم بحراء شهرا كما في مسلم.
وكذا اعتزل من نسائه، وشهر الصوم الواحد. وزيادة القصد ونقصانه كالمريد في سلوكه، وأقلها عشرا لاعتكافه عليه السلام العشر، وهي للكامل زيادة في حاله ولغيره ترقية، ولا بد من أصل يرجع إليه، والقصد بها تطهير القلب من أدناس الملابسة، وإفراد القلب لذكر وأحد، وحقيقة واحدة، ولكنها بلا شيخ مخطرة، وله فتوح عظيمة، وقد لا تصلح لأقوام فليعتبر كل أحد بها حاله، والله اعلم.
قاعدة 115
لا بد من عبادة ومعرفة وزهادة، لكل عابد وعارف وزاهد
لا بد من عبادة ومعرفة وزهادة، لكل عابد وعارف وزاهد. لكن من غلب عليه طلب (العلم) كان عابدا ومعرفته تبع لعبادته. ومن غلب عليه ترك الفضول كان زاهدا وعبادته ومعرفته تبع لزهده، ومن غلب عليه النظر للحق بإسقاط الخلق، كان عارفا وعبادته، وزهده تابعان لأصله. فالنسب تابعة للأصول، وإلا فالطرق متداخلة، ومن فهم غير ذلك فقد أخطأ، نعم يخفف الأمر ويقوى بحسب البساط والله سبحانه اعلم.
قاعدة 116
التزام اللازم للملزوم موصل إليه
التزام اللازم للملزوم موصل إليه، فمن ثم فضل الذكر غيره. إذا ما أردت أن يلزمك فالزم ملزوميته، وقد قال تعالى: {فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون}. ولا أعظم من هذه الكرامة. وجعل لكل حدا ووقتا، إلا ذكره تعالي، إذ قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً} و{الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}. و{فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ}. ولأبي سعيد عن ابن جبان: (أذكر الله حتى يقولوا مجنون). والذكر منشور الولاية، فمن أعطي الذكر فقد أعطي المنشور.
قال شيخنا أبو العباس الحضرمي رضي الله عنه: (عليك بدوام الذكر وكثرة الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي سلم ومعراج وسلوك إلى الله تعالي إذا لم يلق الطالب شيخا مرشدا). فقد سمعت في ست وأربعين وثمانمائة بالحرم الشريف، رجلا من الصالحين روى لي ذلك عن بعض أهل الصدق مع الله تعالى وكلاهما معروفان رأيتهما والله سبحانه اعلم.
قاعدة 117
نورانية الأذكار محرقة لأوصاف العبد
نورانية الأذكار محرقة لأوصاف العبد، ومثيرة لحرارة طبعه بانحراف النفس عن طبعها. فمن ثم أمر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم لأنها كالماء تقوي النفوس وتذهب وهج الطباع، وسر ذلك في السجود لآدم عند قولهم: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ}. ولهذا أمر المشايخ بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم عند غلبة الوجد والذوق ولذلك شاهد. وقد أشار إليه الصديق رضي الله عنه إذ قال: (الصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم أمحق للذنوب من الماء البارد للنار). (ألا ترى إلى آخره) فليعتمد. وقد نص في مفتاح الفلاح أن علامة الفتح، ثوران الحرارة في الباطن والله سبحانه اعلم.
قاعدة 118
لزوم مراعاة الدعاء من حيث الحكمة فالعبد مأمور به
النظر لسابق القسمة وواجب الحكمة، هو القاضي بان الدعاء عبودية اقترنت بسبب، كاقتران الصلاة بوقتها، وكذا الذكر المرتب لفائدة ونحوها، لأنك إذا قلت: تذكر، فإنما يذكر من يجوز عليه الإغفال. وإن قلت: تنبيه، فإنما ينبه من يمكن منه الإهمال. وإن قلت: تسبب، فجعل حكم الأزل أن ينضاف إلى العلل. وقد جاء الأمر به، وترتيب الإجابة، عليه، فلزم أن يرعى من حيث الحكمة ولذا صح بمرفوع منه كـ: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ}، {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}، عند من قال به وهو دعاء الأبدال، والله سبحانه اعلم.
قاعدة 119
استواء العبادتين في الأصل مع جواز ترك إحداهما للأخرى شرعا، يقضي بالبدلية فيهما.
فالذكر بدل من الدعاء عند اعتراض الاشتغال به عنه وبالعكس، وقد صح من شغله ذكري عن مسائلتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين، فظهرت أفضلية الذكر في هذه الحالة خلي عن الحض مع اعتراضه، والتعريض عند الخلو من دواعيهما أتم بجمعه بين صمت الصامت ونطق الناطق والتحقيق أن الأفضل في كل محل ما وقع فيه إذ الكل وقع لأنبياء الله في أحوال، وهم فيها على أفضل الأحوال، فافهم.
قاعدة 120
الحكم في العموم لا يقضي بجريانه للخصوص فاحتيج بالخاص لدليل يخصه
إعطاء الحكم في العموم لا يقضي بجريانه للخصوص فاحتيج بالخاص لدليل يخصه حتى يتخصص بهو من ذلك الجهر بالذكر والدعاء والجمع فيهما ولهما.
فأما الذكر فدليله: (إن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم).
قيل: ومن أدلته: {فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو اشد ذكرا فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق}.
وقال ابن عباس: (ما كنت اعرف انصراف الناس من الصلاة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالذكر) رواه البخاري.
والجهر في ذكر العيد في أدبار الصلوات وبالثغور وفي الأسفار حتى قال عليه السلام: (أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا).
وقد جهر عليه السلام بأذكار في مواطن جمة، وكذا السلف. وصح قوله جوابا لأهل الخندق: (اللهم لا خير إلا خير الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة)، وكل هذه أدلة على الجهر والجمع. لكن في قضايا خاصة يكون وجودها مستندا، لا دليلا لاحتمال قصرها على ما وقعت فيه، وكونها مقصودة لغيرها لا لذاتها، فلزم تمهيد أصل آخر.
قاعدة 121
إثبات الحكم لقضية خاصة، لا يجري في عموم نوعها لاحتمال قصره على ما وقع فيه
إثبات الحكم لقضية خاصة، لا يجري في عموم نوعها لاحتمال قصره على ما وقع فيه، سيما عند من يقول: (الأصل المنع حتى يأتي المبيح)، والجمع للذكر والدعاء والتلاوة أخص من الجمع فيهما لكونه مقصودا بخلاف الأول، فانه اعم من ذلك، فلزم طلب دليل يخصه. فأما الجمع للذكر ففي المتفق عليه من حديث أبي هريرة: (إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون حلق الذكر. الحديث. وفي آخره: فيسألهم ربهم: ما يقول عبادي؟ فيقولون: (يسبحونك ويحمدونك ويكبرونك ويهللونك ويمجدونك). الحديث.
وهو صريح في ندب الجمع لعين الذكر بالترغيب في سياقه. وما وقع في آخره من أن فيهم من ليس منهم فيقول تعالى: (هم القوم لا يشقى بهم جليسهم). فأخذ منه جواز الاجتماع لقصد عين الذكر بوجه لا يسوغ وتأويله كحديث: (ما جلس مسلمون مجلسا يذكرون الله فيه إلا حفتهم الملائكة ونزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة، وذكرهم الله فيمن عنده).
الذي تأول بالعمل مرة، وبذكر الآلاء أخرى، وحمل على ظاهره أيضا فسقط التمسك به في أعيان الأذكار كدلالته على ما تأول به لاحتماله. فإن قيل: يجتمعون، وكل على ذكره، فالجواب: إن كان سرا فجدواه غير ظاهره، وإن كان جهرا، وكل على ذكره، فلا يخفى ما فيه ما إساءة الأدب بالتخليط وغيره مما لا يسوغ في حديث الناس، فضلا عن ذكر الله. فلزم جوازه، بل ندبه بشرطه.
نعم، وتأويل التسبيح والتحميد (والتمجيد) بالتذاكر في التوحيد من ابعد البعيد، فتأويله غير مقبول لبعده عن الأفكار حتى لا يخطر إلا بالأخطار، وذلك من مقاصد (الشرع) بعيد جدا، فافهم.
وأما الدعاء فالجمع له، فقد جاء في حديث حبيب بن مسلمة الفهري رضي الله عنه، وكان مجاب الدعوة، قال: سمعت رسول الله r يقول: (لا يجتمع ملأ فيدعوا بعضهم ويؤمن بعضهم إلا استجاب الله لهم دعاءهم). رواه الحاكم وقال: على شرط مسلم.
وذكره شيخنا أبو زيد الثعالبي رحمه الله في (دلائل الخيرات) وأظنه نقله من ترغيب المنذري.
وحكا أبو اسحق الشاطبي عمل عمر رضي الله عنه به، وإنكاره له، وعده من البدع الإضافية، أي التي تذم لما يقترن بها، لا لذاتها، فافهم.
وأما التلاوة فصحح النووي وغيره: (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يقرؤون القرآن ويتدارسونه إلا حفت بهم الملائكة)، الحديث كما في الذكر. وأخذوا منه جواز قراءة الحزب الذي يقرأ في المساجد، كل ذلك على أصل الشافعي ومذهبه.
وأما مذهب مالك في ذلك كله، هو الكراهة لعدم عمل السلف، ولسد ذريعة الابتداع بالزيادة على ذلك، والخروج فيه لغير الحق، وقد وقع ما اتقاه رضي الله عنه.
قاعدة 122
فضيلة الشيء غير أفضليته، وحكم الوقت غير حكم الأصل
فضيلة الشيء غير أفضليته، وحكم الوقت غير حكم الأصل، فلا يلزم من الترغيب الأفضلية وإن ثبت الفضل، ولا من الترك الفعل لعارض الوقت، رفض حكم الأصل. والجمع للذكر والدعاء والتلاوة، وقد صح ندب كل ذلك بالأحاديث المتقدمة، فلا يصح دفع أصل حكمه، وإن أؤثر عليه غيره فلأفضلية الغير عليه كالذكر الخفي، وما يتعدى من العبادات نفعه، كالعلم والجهاد والتكسب على العيال إلى غير ذلك مما كان اعتناء الصحابة به وشغلهم فيه، حتى شغلهم عن الاجتماع للذكر والتفرغ له من غير ضميمة شيء من ذلك إليه. إلا تراهم عند إمكانه مع ما هم فيه استعملوه كالأسفار والأعياد وأدبار الصلوات ونحو ذلك. ولما جاء عليه الصلاة والسلام حلقة الذاكرين تجاوزها وجلس مع المتذاكرين في العلم، فآثر المتذاكرين في العلم لتعدي نفهم ولاحتياجهم إليه فيما هم به، إذ لا علم إلا من قبله فقصدهم لتبليغ ما جاء به، بخلاف الذاكرين، فإن ما هم فيه بين بنفسه ونفعه قاصر عليهم، لكنه لم ينكر على أولئك وإن آثر هؤلاء، والله اعلم.
قاعدة 123
للزمان حكم يخصه فيخصص مباحه بندب أو منع أو كراهة أو وجوب
للزمان حكم يخصه، بحيث يخصص مباحه بندب أو منع أو كراهة أو وجوب، ويرد مندوبه لمنع أو كراهة. كل ذلك إذا كان كل منهما مؤديا لما يعطاه حكمه من دليل آخر يقتضيه، والقول بمنع الجمع للذكر وكراهته في هذه الأزمنة من ذلك، كمنع النساء من الخروج للمساجد ونحوه، مما هو ممنوع لما عرض فيه وبه لا لذاته، إذ أصل الشريعة إباحته أو ندبه، وللناس في ذلك مذهبان: فمن يقول بسد الذرائع، يمنع جميع الصور لصورة واحدة وهو مذهب مالك رحمه الله، ومن لا يقول بها إنما يمنع ما يقع على الوجه الممنوع، وهو مذهب الشافعي وغيره.
ولما تكلم سيدي أبو عبد الله بن عباد رحمه الله على مسألة الحزب قال: (انه من روائح الدين التي يتعين التمسك بها لذهاب حقائق الديانة في هذه الأزمنة وإن كان بدعة، فهو مما اختلف فيه. وغاية القول فيه الكراهة فصح العمل به على قول من يقول به.
قلت: وقد يلحق الذكر به في بعض الأماكن والأوقات بشرطه. ولعل الشارع إنما قصد بترغيبه من بعد الصدر الأول لاحتياجهم له.
وأما قول ابن مسعود رضي الله عنه لقوم وجدهم يذكرون جماعة: (لقد جئتم ببدعة ظلما، أو لقد فقتم أصحاب محمد علما).
فالجواب عنه بأنه لم يبلغه حديث الترغيب فيها، أو انه أنكر الهيئة ونحوها.
وإلا فلا يصلح إنكاره لهذا الوجه بعد صحة الحديث والله سبحانه اعلم.
قاعدة 124
مراعاة الشروط في مشروطها لازم لمريدها
مراعاة الشروط في مشروطها لازم لمريدها، وإلا لم يصح وجوده له، وإن قامت صورته. وشروط الذكر التي تتعين عند الجمع له ثلاث:
أولها: خلو الوقت عن واجب أو مندوب متأكد يلزم من عمله الإخلال به كأن يسهر فينام عن الصلاة، أو يتثاقل فيها، أو يفرط في ورده، أو يضر بأهله، إلى غير ذلك.
ثانيهما: خلوه عن محرم أو مكروه يقترن به كإسماع النساء أو حضورهن أو يتقي من الأحداث، أو قصد طعام لا قربة فيه، أو داخلته شبهة ولو قلت، أو فراش محرم كحرير ونحوه، أو ذكر مساويء الناس، أو الاشتغال بالأراجيف إلى غير ذلك.
ثالثهما: التزام أدب الذكر من كونه شرعيا أو في معناه، بحيث يكون بما صح واتضح وذكره على وجه السكينة، وإن مع قيام مرة وقعود أخرى، لا مع رقص وصياح ونحوه، فانه من فعل المجانين كما أشار مالك رحمه الله، لما سئل عنهم فقال: (أمجانين هم). وغاية كلامه الاستقباح بوجه يكون المنع فيه أحرى فافهم، والله سبحانه اعلم.
قاعدة 125
الأذكار التي تتعلق بالأمور الدنيوية تؤدي إلى حب الله والأنس بذكره
استراق النفوس بملائمها طبعا، لما فيه نفع ديني مشروع، فمن ثم رغب في أذكار وعبادات لأمور دنيوية، كقراءة سورة الواقعة لدفع الفاقة: (وبسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العلمي) لصرف البلايا المفاجئة: (وأعوذ بكلمات الله التامة من شر ما خلق) لصرف شر ذوات السموم، والحفظ في المنزل، إلى غير ذلك من أذكار صرف الهموم والديون والإعانة على الأسباب، كالغنى والعز ونحوه. بيان ذلك أنها إن أفادت عين ما قصدت له، كان داعيا لحبها، ثم داعيا لمن جاء بها ومن نسبت له أصلا وفرعا، فهي مؤدية لحب الله. وإن لم تؤد ما قصدت له، فاللطف موجود بها، ولا أقل من أنس النفس بذكر الحق، ودخول ذلك من حيث الطباع أمكن وأيسر.
ولهذا الأصل استند الشيخ أبو العباس البوني ومن نحا نحوه في ذكر الأسماء وخواصها، وإلا فالأصل أن لا تجعل الأذكار والعبادات سببا في الأعراض الدنيوية إجلالا لها، والله سبحانه اعلم.
قاعدة 126
كل اسم أو ذكر فخاصيته من معناه وسره في عدده وإجابته على قدر همة صاحبه
كل اسم أو ذكر فخاصيته من معناه وتصريفه في مقتضاه، وسره في عدده وإجابته على قدر همة صاحبه، فمن ثم لا ينتفع عالم إلا بجلي واضح المعنى، ولا جاهل إلا بخفي لا يعرف معناه ويبقى من بينها. ولزم اعتبار العدد الموضوع شرعا، والمستخرج استنباطا لتوقف التحقيق عليه حسب سنة الله. فأما الكتابة والتفريط في الشكل ونحوه، فأمر مستفاد من علم الطباع والطبائع، ولا يخفى بعده عن الحق والتحقيق، فلذا قال ابن البنا رضي الله عنه: (باين البوني وأشكاله، ووافق خيرا النساج وأمثاله).
وقال الحاتمي رحمه الله: (علم الحروف علم شريف لكنه مذموم دينا ودنيا). فاعلم ذلك، وبالله سبحانه التوفيق.
قلت: أما دينا، فلتوغل صاحبه في الأسباب المتوهمة دون المحققة، وذلك قادح في مقام التوكل. وكل باعتبار الاجتهاد في السبب، كالمبادرة بالكي في التطبب لأنه من ترق النفس واستعجال البرء فافهم.
وأما دنيا فلأنه شغل في وجه يخل بعمارتها والله سبحانه اعلم.
قاعدة 127
السبحة وعقد الذكر بالأصابع
اعتبار النسب الحكمية جار في الأمور الحكمية، على وجه نسبتها منها، فمن ثم اعتبر العدد في الذكر، إذ مرجع الوجود إليه باعتبار جواهره وأعراضه. فإذا وافقتا النسبة محلها، وقع التأثير حسب القسمة الأزلية. ولعقد الأعداد وجه في والشرع إذ قال صلى الله عليه وسلم لنساء من المؤمنات: (واعقدن بالأصابع فإنهن مسؤولات مستنطقات)، وأقر بعض أزواجه على تسبيحها في نوى كان بين يديها. وكان لأبي هريرة خيط قد ربط فيه خمسمائة عقدة يسبح فيها، قيل: والسبحة أعون على الذكر وأدعى للدوام، وأجمع للفكر، وأقرب للحضور، وأعظم للثواب، إذ له ثواب أعدادها وما تعطلت فيه لضرورة أو تعطل منها لغلط ونحوه، لتعيينها وفي تحصيل ثواب ذكر جامع لعدد.
كقول: (سبحانه الله عدد خلقه) على ما هو به مع تضعيفه أو دونه، أو لغوه أقوال، وصحح بلا تضعيف. قيل: وذوات الأسباب كتسبيح التعجب أفضل من مطلقها فيترك المطلق للمقيد في وقته، والله سبحانه اعلم.
قاعدة 128
لا يصح الاستدلال بإباحة الغناء في الولائم ونحوها على إباحة مطلق السماع
ما أبيح لسبب أو على وجه خاص أو عام، فلا يكون شائعا في جميع الوجوه، حتى يتناول صورة خاصة بخصوصيتها ليست عن الوجه الخاص بنفسه، فلا يصح الاستدلال بإباحة الغناء في الولائم ونحوها على إباحة مطلق السماع، ولا بإباحة إنشاد الشعر على صورة السماع المعلومة لاحتمال اختصاص حكمها. فلذلك قال ابن الفاكهاني رحمه الله تعالى في شرح الرسالة: (ليس في السماع نص بمنع ولا إباحة). يعني على الوجه الخاص، وإلا فقد صح في الولائم والأعياد ونحوها من الأفراح المشروعة والاستعانة على الأشغال. فإذا المسألة جارية على حكم الأشياء، قبل ورود الشرع فيها، والله سبحانه اعلم.
قاعدة 129
السماع لغير ضرورة فيه شبهة
الأشياء قبل ورود الشرع فيها، قيل: على الوقف، فالسماع لا يقدم عليه. وقيل: على الإباحة، فالسماع مباح، وقيل: على المنع، فالسماع ممنوع. وقد اختلف فيه الصوفية بالثلاثة الأقوال، كاختلاف الفقهاء. وقال الشيخ أبو اسحق الشاطبي رحمه الله: (السماع ليس من التصوف بالأصل ولا بالعرض، إنما أخذ من عمل الفلاسفة)، انتهى بمعناه.
والتحقيق أنه شُبهة تُتَّقى لشبهها بالباطل وهو اللهو، إلا لضرورة تقتضي الرجوع إليه، فقد تباح لذلك. وقد ذكر المقدسي أن أبا مصعب سأل مالكا رضي الله عنهما فقال: لا ادري إلا أن أهل العلم ببلدنا لا ينكرون ذلك ولا يقعدون عنه، ولا ينكره إلا ناسك غبي، أو جاهل غليظ الطبع.
وقال صالح بن أحمد بن حنبل رحمهما الله: رأيت والدي يتسمع من وراء الحائط لسماع كان عند جيراننا، وقال ابن المسيب لقوم يعيبون الشعر: (نسكوا نسكا أعجميا). وقد صح عن مالك إنكاره وكراهته، وأخذ من المدونة جوازه، كل ذلك إن تجرد عن آلة وإلا فمتفق على تحريمه، غير ما للعنبري وإبراهيم بن سعد، وما فيهما معلوم. وقد بالغ الطرطوشي في المسألة وغيره، وتحقيقها آيل للمنع والله سبحانه اعلم.
قاعدة 130
السماع عند الصوفية رخصة تباح لضرورة
اعتقاد المرء فيما ليس بقربة بدعة. وكذلك أحداث حكم لمن يتقدم، وكل ذلك ضلال إلا أن يرجع لأصل استنبط منه، فيرجع حكمه إليه. والسماع لا دلالة على ندبه عند مبيحه جملة، وإن وقع فيه تفصيل عند قوم فالتحقيق انه عند مبيحه رخصة تباح للضرورة، أو في الجملة فيعتبر شرطها وإلا فالمنع، والله سبحانه اعلم.
قاعدة 131
من كان استماعه بالحقيقة استفاد التحقيق ومن كان استماعه بالنفس استفاد سوء الحال
التهيؤ للقبول، على قدر الإصغاء للمقول. فمن كان استماعه بالحقيقة استفاد التحقيق، ومن كان استماعه بالنفس استفاد سوء الحال، ومن كان استماعه بالطبع اقتصر نفعه على وقته، فمن ثم لا يزداد طالب العلم للدنيا ميلة إلا ازداد (من الله) إدبارا عن الحق، ولا يستفيد غالب الناس من المحافل العامة، كالكتاب والميعاد ونحوه، إلا استحلاؤه في الوقت. وينفع ذا الحقيقة ما يفيد من أي وجه خرج، فافهم، والله سبحانه اعلم.
قاعدة 132
ما خرج من القلب، دخل للقلب، وما قصر على اللسان لم يجاوز الآذان
ما خرج من القلب، دخل للقلب، وما قصر على اللسان لم يجاوز الآذان، ثم هو بعد دخوله القلب إما أن يلقى معارضا فيدفعه بجحود كحال الكفار، أو بإعراض كحال المنافقين، أو يحول بينه وبين مباشرة القلب حائل رقيق كأحوال العصاة، أو يمس سويداه، ويباشر حقيقته فيوجب الإقدام والإحجام على حكمه، كحال أهل الحق من المريدين. فأما العارف فيستفيد من كل ذي فائدة، كان من قلب أو غيره، فافهم.
قاعدة 133
الشعر كالكلام حسنه حسن وقبيحه قبيح
قال (الإمام) الشافعي رحمه الله تعال: (الشعر حسنه حسن، وقبيحه قبيح). فالمتمثل تابع في ذمه ومدحه للمتكلم به. ثم هو عند الاحتمال مصروف لنية قائله أصلا أو تمثلا لسامعه. فتعينت مراعاة أحوال أهله والمسموع عليه، فلا يوضع وصف دني على علي، لأنه إساءة أدب ولا بالعكس، لأنه إخلال بالحال. ومن ذلك ما روي أن أبا سعيد الخراز قال لمن رآه في النوم: (إن الحق أوقفني بين يديه وقال: أتحمل وصفي على ليلى وسعدى؟ لولا أني نظرت إليك في مقام أردتني به خالصا لعذبتك)، انتهى، فافهم والله سبحانه اعلم.
قاعدة 134
اعتراف المحقق بنقص رتبة هو فيها على الجملة
اعتراف المحقق بنقص رتبة هو فيها على الجملة يقضي بذمها على نحو ما حكي في اعترافه، لأن إخباره راجع لأمانته، فلا يذكر غير ما حقق ذمه وإلا فهو كذاب. ثم هو فيها إما معذور أو مسيء والأولى به العذر فيعذر ولا يقتدى به.
قاعدة 135
منع الشيء لما يعرض فيه أو بسببه، لا يقضي بنقض أصل حكمه
منع الشيء لما يعرض فيه أو بسببه، لا يقضي بنقص أصل حكمه. وقد جزم محققو المتأخرين من الصوفية وأكثر الفقهاء بمنع السماع لعارض الوقت من الابتداع والضلال بسببه. حتى قال الحاتمي رحمه الله: (السماع في هذا الزمان لا يقول به (مسلم)، ولا يقتدى بشيخ يعمل بالسماع ولا يقول به).
وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه: (سألت أستاذي عن السماع فقال لي: (أنهم ألفوا آباءهم ضالين، فهم على آثارهم يهرعون).
وقال ابن نجيد رحمه الله: (زلة في السماع، شر من كذا وكذا سنة تغتاب الناس).
وقيل للجنيد: كنت تسمع، فلم تركت السماع.
قال: (ممن؟ قيل له:من الله. قال: فمع من؟) انتهى. ومجرى الحكم في المنع كالذكر بالجمع فتأكد لفقد حكم الأصل).
فالقائل بسد الذرائع، يمنع بالجملة وغيره يمنع ما يتصور فيه الباطل ليس إلا. والله سبحانه اعلم.
قاعدة 136
الضرورات الداعية للسماع ثلاثة
ما أبيح للضرورة قيد بقدرها، ووقف به على وجهها، وروعي فيه شرطه صحة وكمالا، ومع ذلك السماع الضرورة الداعية له ثلاثة:
أولهما: تحريك القلب، ليعلم ما فيه بمثيره، وقد يكتفي عن هذا بمطالعة وجوه الترغيب والترهيب، ومفاوضة أخ أو شيخ.
ثانيهما: الرفق بالبدن بإرجاعه للإحساس، ومثيرات الطباع حتى لا يهلك فيها بما يرد عليه من قوى الواردات. وقد يستغني عن ذلك بملابسة العاديات البشرية في الجملة كالنكاح والمزاح ونحوه.
ثالثهما: التنازل للمريدين حتى تتفرغ قلوبهم لقبول الحق في قالب الباطل، إذا ليس لهم قوة لقبول الحق (في قالب الباطل إذ ليس لهم قدرة على قبول الحق) من وجهه بلا واسطة من الطبع. ولهذا الوجه، نحا الششتري رحمه الله، بأزجاله فيما ظهر لي. والله سبحانه اعلم.
قاعدة 137
استجلاب النفوس بمساعدة طبعها أهدى لتقريب نفعها
استجلاب النفوس بمساعدة طبعها أهدى لتقريب نفعها فمن ثم وقعت المنفعة بالأزجال والقصص في تعريف الطريق والإشارة إلى حقائقها. لكن رائحة البساط مصاحبة لما خرج منه فلا تستفاد فائدته إلا معه. فلذلك لا تجد مولعا بالشعر صرفا له حقيقة في ديانته وإن كان فمع حيرة ودعوى، لأنه مصحوب بها في أصل (وجوده) غالبا. وقد قال أبو عثمان رحمه الله: من أمن السنة على نفسه قولا وفعلا، نطق بالحكمة، ومن أمن الهوى على نفسه قولا وفعلا نطق بالبدعة. والله سبحانه اعلم.
قاعدة 138
شروط السماع (عند القائل به) ثلاثة
إذا وقف أمر على شرطه في صحته أو كماله، روعي ذلك الشرط فيه لما كان مشروطا به على حسبه وإلا كان العمل فيه خارجا عن حقيقته أو كماله.
وشرط السماع (عند القائل به) ثلاث:
أولهما: مراعاة آلاته التي يقع فيها ومعها وبها وهي: الزمان، والمكان، والإخوان.
ثانيها: خلو الوقت عن معارض ضروري، أو حاجي شرعا، أو عادة إذ ترك الأولى للرخص، تفريط في الحق، وإخلال بالحقيقة.
ثالثها: وجود الصدق من الجميع، وسلامة الصدر في الحال، فلا يتحرك متحرك إلا بغلبة. وإن فهم منه غيرها، سلم له الأدنى وأدبه الأعلى، وذكره القرين. ولا يزال الصوفية بخير ما تنافروا، فإذا اصطلحوا قل دينهم إذ لا يكون صلحهم إلا مع إغضاء عن العيوب، فانه لا يخلو المرء من عيب بحال، وما سلم من النفاق، ومن عمل على الوفاق، والمخالفة تمنع الموافقة.
قاعدة 139
التغزل، والندب، والإشارة، والتعريج، دليل البعد عن وجود المشاهدة
التغزل، والندب، والإشارة، والتعريج، دليل البعد عن وجود المشاهدة، إذ الجلال والجمال مانع من قيام النفس (بقوته المانعة من التوسع والاتساع إلا بما يقتضيه الحال) والشعر من محامدها. ومن ظهر نور الحق على قلبه، لم يبق فيه نصيب لغيره، فيكون ما جاء عنه أشهى إليه من الماء البارد. (بل لا يجد في نفسه بقية تقبل ما سواه، ولا تتسع لرؤية غيره. ورؤية المحبوب توجب العمى عن غيره ما سدة وهو لا فلا يذكر إلا بذكره). ولهذا قل شعر المحققين من الأكابر، كالجنيد، والشيخ أبي محمد عبد القادر، والشاذلي، ونحوهم، ولهم أسوة في الأكابر من الصحابة، إذ كانوا اعلم الناس به. ولكنهم لم يذكروه إلا في محل لا يشير بشيء من الحقائق، وإن كانت مضمنة فيه، فعلى قدره. والله اعلم.
قاعدة 140
عقوبة الشيء ومثوبته من نوعه (الجزاء من جنس العمل)
عقوبة الشيء ومثوبته من نوعه (سيجزيهم جزاء وفاقا) من زنى زني بأهله. ومن ثم عوقب مؤثر السماع والقول بإطلاق أقوال الناس فيه، وأثيب بإطلاق ثناء الناس عليه. فلا يزال بين مادح وذام، بوجه لا يمكن انفكاكه حتى ينفك عما هو به، كما جرب من سنة الله. ومنه حكاية يوسف بن الحسين في قوله: (إيلام في الرأي). ومن عقوبة ابن الجلاء في ذكره استحسان وجه شاب بإنساء القرآن، إذ البصيرة كالبصر، والله اعلم.
قاعدة 141
منع السماع في حق من علم غلبة عقله به
حفظ العقول واجب، لحفظ الأموال والأعراض، فمن ثم قيل: (يمنع السماع باتفاق في حق من علم غلبة عقله به). ولا يجوز قطع الخرق، وإن دخل فيه على المكارمة لإضاعة المال، ولا يجوز أن يدخل مع القوم من ليس منهم، وإن كان عابدا أو زاهدا، لا يقول بالسماع ولا يراه. وكذا العارف لأن حاله أتم، فيؤدي لاغتيابه الجماعة بالنقص (وصورة الهوى) واغتيابهم له.
قال الشيخ أبو العباس الحضرمي رضي الله: كان يصحب بعض المشايخ فقيه، فإذا حضر السماع صرفه ولا يسمح بحضوره مع كونه في عداد أصحابه. وقال: (إن السماع فيه طريق لكن لمن له به معرفة). والله سبحانه اعلم.
قاعدة 142
يعذر الواجد بحالة لا يملك نفسه فيها، وله حكم المجنون في حاله
يعذر الواجد بحالة لا يملك نفسه فيها، وله حكم المجنون في حاله، بسقوط اعتبار أفعاله، وعدم جري الأحكام عليه إن تحقق وجود الحالة منه، ويلزمه استدراك الفائت كالسكران لتسببه في الأصل. وينتفي جواز الاقتداء به كتواجد النوري في قيامه للسيف إيثارا، وإلا فهو إعانة على قتل نفسه، وكحالة أبي حمزة في بقائه في البئر حتى خرج بمهلكة، وكحالة الشبلي في حلق لحيته وإلقائه المال في البحر عند شعوره ببخله، إلى غير ذلك مما لا يوافق الشرع من ظاهر أعمالهم التي حمل عليها غالب الوجد كما هو ظاهر من حكاياتهم، فلهم فيها حكم المجانين، ومن ذلك الرقص ونحوه. وبالجملة فلا عتب على معذور لم يقصد المخالفة بوجه لا يمكنه غير ما فعل لعدم ضبط حركاته.
وقد قال صلى الله عليه وسلم للمجنونة (إن شئت صبرت ولك الجنة أو دعوت الله فشفاك)، فرضيت على أن لها الجنة. فهذا خير من التعصب بالنكير، وعكسه وهو أقرب للحق إذ لا عصمة، والله سبحانه اعلم.
قاعدة 143
لا يستفيد الواجد علما أو عملا أو حالا إلا إن لاحظ المعنى أثناء وجده
الواجد إن لاحظ معنى في وجده أفاده علما أو عملا أو حالا، مع ميله للسكون والاستلقاء ظاهرا فوجده من الحقيقة والمعنى.
وإن لاحظ الوزن والألحان، فطبيعي سيما إن وضع له اضطراب واحتراق في النفس، وإن لاحظ نفس الحركة ليس إلا فشيطاني، سيما إن أعقبه اضطراب وهوشة في البدن، واشتعال ناري فلزم اعتبار ذلك بوجه من التحقيق تام، وإلا فترك سببه أولى وأفضل لكل ذي دين يريد السلامة.
قاعدة 144
يجوز التشبه بأهل الخير في زيهم إلا إن قصد التلبيس والتغرير
المتشبه بالقوم ملحق بالمتشبه بهم لحديث: (من تشبه بقوم فهو منهم)، لأنه مؤذن بالمحبة. وقد صح: (الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم قال: أنت مع من أحببت).
فجاز التشبه بأهل الخير في زيهم إلا أن قصد التلبيس والتغرير، كلباس المرقعة، وأخذ السبحة والعصا، والسجادة والأصباغ ونحوه لما في ذلك مما ذكر، ومن حماية النفس عن كبائر لا يمكن معه وإن أمكنت، فلا تمكن المجاهدة بها، ثم لباس المرقعة أعون على دفع الكلف، وأذهب للكبر، واقرب للحق مع الاقتداء بعمر رضي الله عنه، إذ لبسها مع وجود غيرها لصلاح قلبه . إلا تراه يقول حين البس غيرها قال: أنكرت نفسي. وهو أيضا اقرب لوجود الحلال في اللباس نعم ، ولمنع أكثر الإذايات في الأسفار وغيرها، وقد أمر الله نساء المؤمنات مع أزواج رسول الله وبناته بالتدني حتى لا يعرفن فلا يؤذين. وكان عمر رضي الله عنه يضرب الإماء على التنقب للتشبه بالحرائر. وقال الشيخ أبو يوسف الدهماني رضي الله عنه لفقير له: أخذه العرب في البادية ولم يكن معه زي الفقراء المفرط أولى بالخسارة، لأن هذه الأسباب سلاح، من دخلها احترم من أجل الله، ومن لم يحترمه فقد هتك حرمه الله (ومن هتك حرمة الله) لا يفلح. وقال الشيخ لبعض الشباب: إياكم وهذه المرقعات فإنكم تكرمون لأجلها . فقال: يا أستاذ إنما نكرم بها من اجل النسبة إلى الله، قال: نعم. قال: حبذا من نكرم لأجله، قال الشيخ: بارك ا لله فيك، وكما قال.
قاعدة 145
يجوز التبرك بآثار أهل الخير ممن ظهرت كراماته
كرامة المتبِع شاهدة بصدق المتبَع، فله نسبة من (جهة) حرمته لثبوت الإرث له ، فمن ثم جاز التبرك بآثار أهل الخير ممن ظهرت كراماته، بديانة أو علم أو عمل ، أو اثر ظاهر ، كتكثير القليل أو الأخبار عن الغيب حسب فراسته وإجابة الدعوة،وتسخير الماء والهواء إلى ذلك مما صح من آيات الأنبياء،فيكون كرامة الأولياء . إذ الأصل التأسي حتى يأتي المخصص وقيل عكسه، ولم يزل أكابر الملة يتبركون بأهل الفضل من كل عصر وقطر، فلزم الاقتداء بهم حسبما يهدي إليهم النظر في الأشخاص، والله سبحانه أعلم.
قاعدة 146
يُعرف باطن العبد من ظاهر حاله
يعرف باطن العبد من ظاهر حاله، لأن الأسرة تدل على السريرة، وما خامر القلوب فعلى الوجوه أثره يلوح، {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من اثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع اخرج شطئه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع نباته ليغيظ به الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيما}
وقال ذلك الرجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (فلما رأيته علمت انه ليس بوجه كذاب).
وقال عز من قائل (في المنافقين): {ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم، ولتعرفنهم في لحن القول، والله يعلم أعمالكم}. وقيل: (الناس حوانيت مغلقة) فإذا تكلم الرجلان، تبين العطار من البيطار، لأن الكلام صفة المتكلم، وما فيك ظهر على فيك.
فمعرفة الرجل من ثلاثة: كلامه، وتصرفه، وطبعه، وتتعرف كلها من مغاضبته، فإن لزم الصدق، وآثر الحق، وسامع الخلق فهو ذاك، وإلا فليس هناك، والله سبحانه اعلم.
قاعدة 147
إذا أردت أن تعرف صالح بلد فانظر لباطل أهلها هل هو بريء منه أم لا
لكل بلد ما يغلب عليها من الحق والباطل، فإذا أردت إن تعرف صالح بلد فانظر لباطل أهلها، هل هو بريء منه أم لا، فإن كان بريئا فهو ذاك، وإلا فلا عبرة به. وبحسب هذا، فاعتبر في أهل المغرب الأقصى، السخاء وحسن الخلق، فإن وجدت وإلا فدع.
وفي أهل الأندلس كذلك. وفي أهل المشرق الغيرة لله، وسلامة الصدر، وإلى غير ذلك. وقد أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذا الأصل فذكر أوصاف البلاد وعوارضها، كقوله في المشرق: (الفتنة هاهنا). وكذا النجد. وفي الفرس: (لو كان الإيمان بالثريا لأدركه رجال منهم). وفي أهل اليمن: أنهم أرق أفئدة. وفي أهل المدينة: أنهم خير الناس مع ما وصفهم الله به من قوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}. وما وصف به أهل مصر من الأوصاف المذكورة وغيرها التي يبلغ عددها سبعة عشر موضعا في كتاب الله. وقال صلى الله عليه وسلم (السكينة والوقار في أهل الغنم، والفخر والخيلاء في أهل الخيل، والغلظة والجفاة في الفدادين تباع إذناب الإبل والبقر في ربيعة ومضر). وقال عمر رضي الله عنه: (إفريقية بلاد مكر وخديعة). وقال مولانا جلت قدرته لذي القرنين في أهل المغرب الأقصى: (حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة ووجد عندها قوما، قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا) فدل على استحقاقهم لكل ما يعاملون به من خير أو شر، وأنهم لكذلك والله سبحانه اعلم.
قاعدة 148
ما يجري في العموم قد ينتقض في الخصوص
ما يجري في العموم قد ينتقض في الخصوص، بل الموجود كذلك، والناس معادن، ففي كل بلدة سادة، وفي كل قطرة قادة، والشخص معتبر بوصفه، فمن ثم قيل: الناس أبناء أخلاقهم، والذم عموما لا يتناول من خلا عن سبيله، والله سبحانه اعلم.
قاعدة 149
النظر بعين الكمال المطلق يقتضي التنقيص بما ليس بمنقص عند تحقيقه
النظر بعين الكمال المطلق يقتضي التنقيص بما ليس بمنقص عند تحقيقه، والعصمة غير موجودة لسوى الأنبياء. فلزم إن ينظر للغالب على أحوال الشخص لا لكله، فإن غلب صلاحه رجحه، وإن غلب غير ذلك رجحه.
وان تساويا، نظر فيه بوجه التحقيق فأعطى حكم المسألة فإن أمكن التأويل في الجميع، تأول ما لم يخرج لحد الفسق البين أو يتعلق بما ينقض طريقه.
قيل للجنيد رحمه الله: أيزني العارف؟ فسكت ملياً ثم قال: { وكان أمر الله قدراً مقدورا }
قال ابن عطاء الله رضي الله عنه : ليت شعري، لو قيل له: أتتعلق همة العارف بغير الله؟ لقال: لا. قلت: لأن عنوان معرفته تعلقه بربه، فإذا انتقص ذلك انتفى عن المعرفة، فافهم، والله سبحانه اعلم.
قاعدة 150
من ظهرت عليه خارقة، إن صحت ديانته فكرامة وإلا فهي استدراج
من ظهرت عليه خارقة تقتضي ما هو أعم من كرامته، نظر فيها بفعله، فان صحت ديانته معها فكرامة، وإن لم تصح فاستدراج أو سحر. وإن ظهر بعد ثبوت الرتبة مناف مما يباح بوجه تأول مع إقامة الحق الشرعي إن تعين. وإن كان مما لا يباح بوجه فالحكم لازم،والتأويل غير مصادف محلاً إذ الحقائق لا تنقلب، والأحكام ثابتة على الذوات، فلزم الحكم عليه بحكمه. وأصل تأويل ما لا يباح بوجه مذكور في قضية الخضر مع موسى عليهما السلام، إذ بين الوجه عند فراقه، فافهم، والله سبحانه اعلم.
قاعدة 151
الاختلاف في الخضر عليه السلام
وقائع الخصوص لا تتناول الحكم في العموم، فلا يعم إجراء الحكم المختص بقوم في عموم الخلق، لأنه ليس لهم به علم. وقد أمرنا بترك ما لا علم لنا به . فالقائل بان الخضر نبي مرسل، وإن من اعتقد فيه الولاية فقد تَنَقّصَه محجوج بنفي القاطع عن دعواه، ثم هو مسلم له فيما ادعاه، لاحتماله منعه من إجراء الأحكام عن أصل إلقائه وأمره إذ شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ناسخة لما قبلها، وما قدرته من ذلك إن ظهر وقوعه وإلا فلا يجدي حكمه، والله سبحانه اعلم.
قاعدة 152
المزية لا تقتضي التفضيل
المزية لا تقتضي التفضيل، والاقتداء لا يصح إلا بذي علم كامل، أو دين. ولو قيل بالتفضيل بالمزايا للزم تفضيل إبليس على عوام المؤمنين، إذ له مزية خرق الهواء، والمشي على الماء، ونفوذ الأرض في لحظة وما اثبت الله له تعالى من أن يرانا هو وقبيله من حيث لا نراه. وللزم تفضيل الخضر على موسى عليهما السلام، وكل ذلك لا يصح. فلزم أن التفضيل بحكم الله في الجملة فلا يتعرض له إلا بتوفيق ثابت في بابه. ولكن للدليل ترجيح فوجب التوقف عن الجزم، وجاز الخوض في الترجيح إذا أحوج إليه الوقت، وإلا فترك الكلام فيه أولى والله سبحانه اعلم.
قاعدة 153
النظر للأزمنة والأشخاص لا من حيث أصل شرعي أمر جاهلي
النظر للأزمنة والأشخاص لا من حيث أصل شرعي أمر جاهلي حيث قال الكفار: {وقالوا لولا انزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم}، فرد الله تعالى عليهم بقوله: {(أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} الآية. {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ}. فرد الله تعالى عليهم: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} الآية .
قاعدة 154
لزوم احترام المنتسب لجانب الله بأي وجه كان وعلى أي وجه كان
الانتساب مشعر بعظمة المنتسب إليه، والمنتسب فيه في نظر المنتسب فلذلك لزم احترام المنتسب لجانب الله بأي وجه كان، وعلى أي وجه كان ما لم يأت بما ينقصه على التعظيم.
فالنقص كمخالفة الشريعة صريحاً، فيتعين مراعاة نسبته وإقامة الحد عليه لأن الذي تعلق به هو الذي أمره. نعم يلزم تحقيق أمره فيه، وإلا عاد الضرر على معارضه لقصد هتك منتسب لجانب عظيم بمجرد هواه. فمن ثم تضرر كثير ممن يتعرض للاعتراض على "جانب" الله، وإن كانوا محقين، إذ الحق تعالى يغار لهتك جانبه، فلزم تحقيق المقام في النكير، وتصحيح النية بالغاية وإلا فالحذر الحذر، والله سبحانه اعلم .
قاعدة 155
عافية من ابتلي من الأكابر في بلائه
مقتضى الكرم أن تحفظ النسبة للمنتسب على وجه طلبه، ويشهد لذلك (أنا عند ظن عبدي بي). ومن ثم قيل: (إن عافية من ابتلى من الأكابر في بلائه، إذ لا حاجة له في سوى رضا ربه ورضاه عنه بأي وجه كان، بل يطلب لقاءه على وجه يرضاه وإن كان فيه حتفه. إلا ترى لعمر رضي الله عنه حيث كان يطلب الشهادة فأعطيها وعثمان رضي الله عنه اختار القتل ظلما لحقن دماء المسلمين وتعجيله للقاء أصحابه ونبيه إلى غير ذلك. حتى أن بلالا لما كان في الموت قالت زوجته: (واكرباه) فقال: (واطرباه) غدا ألقى الأحبة، محمد وحزبه.
ومعاذ رضي الله عنه لما ذكر الوباء فقال: انه رحمة لهذه الأمة، اللهم لا تنسى معاذا وأهله من هذه الرحمة. فأخذته وباية في كفه، فكان يغمى عليه، ثم يفيق فيقول: أخنق خنقك، فوعزتك لتعلم أني أحبك، إلى غير ذلك.
ولما قتل الحجاج سعيد بن جبير رحمه الله، قال سعيد: (أنا آخر الناس عينا بك) قال: قد قتلت من هو أفضل منك. قال سعيد: (أولئك كانت قلوبهم متعلقة بالدار الآخرة فلم يبالوا، بل كانوا أحرص الناس على قربهم منها، وأنا قلبي متعلق بنفسي)، فقتله فكان آخر قتيل له بدعوته عليه فظهر الفرق، وإن عافية كل أحد على حسب حاله ومعاملة الحق له لا على حسب انتسابه، والله اعلم.
قاعدة 156
العافية سكون القلب عن الاضطراب حتى لو دخل صاحبها النار لرضي عن ربه
العافية سكون القلب عن الاضطراب، وقد يكون ذلك بسب عادم أو وجه شرعي، أو حقيقة تامة هي سكون القلب إلى الله تعالي، وهذه عافية أهل الكمال وهي الشاملة بكل حال حتى لو دخل صاحبها النار لرضي عن ربه فافهم، والله سبحانه اعلم.
قاعدة 157
جواز التوسل بالأعمال الصالحة وبالأشخاص
لا يشفع أحد عند الله إلا بإذنه، وقد أمر بابتغاء الوسيلة إليه. وقيل: إتباع رسول الله، وقيل في العموم.
فيتوسل بالأعمال كأصحاب الغار الذين دعا كل وأحد بأفضل عمله. وبالأشخاص كتوسل عمر رضي الله بالعباس رضي الله عنه في استسقائه.
وجاء التغريب في دعاء المرء لأخيه بظهر الغيب مطلقا، وفي دعاء المرء لأخيه مطلقا. أخرجه البخاري.
وقال عليه الصلاة والسلام لعمر رضي الله عنه حين ذهب لعمرة له: (أشركنا في دعائك يا أخي)، وذلك للتعليم وإلا فهو عليه الصلاة والسلام وسيلة الوسائل، وأساس الخيرات والفضائل.
وقد روي عن مالك: (لا يتوسل بمخلوق أصلا)، وقيل: إلا برسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا كما قال أبو بكر بن العربي في زيارة المقابر: (لا يزار لينتفع به إلا قبره عليه السلام). وسيأتي إن شاء الله، والله اعلم.
قاعدة 158
الخرقة، ومناولة السبحة، وأخذ العهد والمصافحة والمشابكة
ليس الخرقة، ومناولة السبحة، وأخذ العهد والمصافحة والمشابكة من علم الرواية، إلا أن يقصد بها حال فتكون لأجله. وقد ذكر ابن أبي جمرة أخذ العهد في باب البيعة وألحقه بأقسامها، وأخذوا إلباس الخرقة من أحاديث وردت في خلعه صلى الله عليه وسلم على غير وأحد من أصحابه ومبايعة سلمة بن الأكوع، وكذا مبايعته صلى الله عليه وسلم لأصحابه بعد تحقق الإيمان وتقديره في قلوبهم إنما هو لذلك، ويجري حكم الإرث والتأسي فيها كغيرها فلا نكير لجري الخلاف ولا لزوم لوجود الاشتباه، ووجهها وطريقها ليس هذا محله. نعم، هي لمحب أو منتسب أو محقق، وفيها أسرار خفية يعلمها أهلها، والله سبحانه اعلم.
قاعدة 159
زيارة القبور والتبرك وشد الرحال للمساجد
ما صح واتضح، وصحبه العمل لازم الإباحة، كزيارة المقابر، (فقيل): (ليس إلا لمجرد الاعتبار بها، لقوله r: (فإنها تذكر بالآخرة).
قيل: ولنفعها بالتلاوة والذكر والدعاء الذي اتفاق على وصوله كالصدقة. قيل: وللانتفاع بها، لأن كل من يتبرك به في حياته يجوز التبرك به بعد موته، كذا قال الإمام أو حامد الغزالي رحمه الله في (كتاب آداب السفر)، قال: ويجوز شد الرحال لهذا الغرض، ولا يعارضه حديثه: (لا تشد الرحال إلا للمساجد الثلاثة) لتساوي المساجد في الفضل دون الثلاثة، وتفاوت العلماء والصلحاء في الفضل فتجوز الرحلة عن الفاضل للأفضل. ويعرف ذلك من كراماته وعلمه وعمله سيما من ظهرت كرامته بعد موته مثلها في حياته، كالسبتي، أو أكثر منها في حياته، كابي يعزى، ومن جربت إجابة الدعاء عند قبره، وهو غبر واحد من أقطار الأرض، وقد أشار إليه الشافعي رحمه الله حيث قال: (قبر موسى الكاظم الترياق المجرب).
وكان شيخنا أبو عبد الله القوري رحمه الله يقول: (إذا كانت الرحمة تنزل عند ذكرهم، فما ظنك بمواطن اجتماعهم على ربهم، ويوم قدومهم عليه بالخروج من هذه الدار وهو يوم وفاتهم، فزيارتهم فيه تهنئة (لهم)، وتعرض لما يتجدد من نفحات الرحمة عليهم فهي إذا مستحبة إن سلمت من محرم ومكروه بين في أصل الشرع، كاجتماع النساء، وتلك الأمور التي تحدث هناك، ومراعاة آدابها من ترك التمسح بالقبر وعدم الصلاة عنده للتبرك، وإن كان عليه مسجد، لنهيه r عن ذلك وتشديده فيه ومراعاة حرمته ميتا كحرمته حيا، والله سبحانه اعلم.
قاعدة 160
القطع بإيمان مسلم أو ولاية صالح
قد تفيد الدلائل من الظن ما يتنزل منزلة القطع، وإن كان لا يجري على حكمه في جميع الوجوه، كالقطع بإيمان مسلم ظهرت منه أعلام الإسلام، وكولاية صالح دلت على مقامه أفعاله وأقواله وشواهد أحواله، كل ذلك في علمنا من غير جزم بعلم الله فيه، إلا في حق من جاءنا عن الله مخصص له، كالعشرة المشهود لهم بالجنة.
وقد صح: (إذا رأيتهم الرجل يعتاد المسجد، فاشهدوا له بالإيمان).
وصح: (خصلتان لا يجتمعان في منافق: حسن سمت، وفقه دين، و (خصلتان لا تجتمعان في مؤمن: البخل، وسوء الخلق).
وصح حلف سعد على إيمان رجل، فلم ينكر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يمينه وإن رده بقول: أو مسلم.
وصح: (ثلاثة من كن فيه فهو منافق) الحديث.
ولا يتناول من واقع ذلك من المؤمنين جملة، بل مجراه في حق من لا يبالي في أي جزء وقعت منه تلك الخصال من عقد أو عمل أو قول، إذا في كل واحدة.
ويشهد لذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (كل الخصال يطبع عليها المؤمن ليس الخيانة والكذب). فنفى عنه أن يكون مطبوعا عليها لا غيره، فهي وإن وقعت منه فبالعرض لا بالأصالة، بخلاف المنافق، ولذلك لم تصح من مؤمن في كل شيء، إذ يستثنى جزءا، ولو في باب الكفر، إذ لا يجزم به ظاهرا كغيره، فكانت فيه لا في غيره والله سبحانه اعلم. وقد يريد نفاقا دون نفاق، وحمله عليه جماعة من العلماء، والله سبحانه اعلم.
قاعدة 161
الفراسة الشرعية نور إيماني ينبسط على القلب
الفراسة الشرعية، نور إيماني ينبسط على القلب حتى يتميز في نظر صاحبه حالة المنظور فيه عن غيره، بل يميز أحواله في النظر فيه، بحسب أوقاته. ولكل مؤمن منها نصيب، لكن لا يهتدي لحقيقتها إلا من صفا قلبه من الشواغل (والشواغب)، ثم هو لا يصح أن يقبل الخاطر منها إلا بعد تردده مدة في البداية، وبعد اعتياده على حسب اعتياده.
وإليها الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم: (كان في الأمم محدثون، فإن يكن في أمتي، فعمر منهم). وقال أبو بكر رضي الله عنه: (اقتسمي مع إخوتك).
وقال عثمان رضي الله عنه للرجل الذي دخل (عليه)، وقد نظر في محاسن امرأة: (أيدخل علي أحدكم وعيناه مملوءة زنا).
والفراسة الحكمية، اعتبار بواطن الأشخاص، بظواهر الحواس. وقد أشار إليها في حديث الرجل الذي قال: (اعدل). وفي حديث: (تقاتلون قوما، نعالهم الشعر، وتقاتلون الترك). ونحوه ذلك. وفائدة كل منهما، الالتفات لما دل عليه فيحذر، أو يعامل لا الجزم في الحكم، إذ لا تفيد قطعا ولا ظنا يتنزل منزلته والله سبحانه اعلم.
قاعدة 162
ذاهب العقل بحقيقة إلهية يعتبر من حيث إنه ظرف لمعنى شريف
ذهاب العقل، إن كان بخيالات وهمية، سقط اعتبار صاحبه ظاهرا أو باطنا. وبحقيقة إلهية، اعتبر صاحبه من حيث انه ظرف لمعنى شريف. ويدل على كل إشارته بحاله ومقاله، كقول بعض المجانين: (يا مناحيس لا يغرنكم إبليس فانه إن دخل النار، رجع إلى داره، وأنتم يجتمع عليكم العذاب والغربة).
وقال الشيخ أبو محمد عبد القادر رضي الله عنه: (إن لله عبادا عقلاء ومجانين، والعقلاء خير من المجانين) أو كما قال. ولما نظر بعض القضاة لرجل قد أعطي التحول في الصورة وهو على مزبلة، قال في نفسه: إن الذي يعتقد هذا لخسيس العقل، فناداه في الحال: يا فقيه، قال: نعم، قال: هل أحطت بعلم الله؟ قال: لا. قال: (أنا من علم الله الذي لم تحط به). انتهى وهو عجيب، فسلم تسلم.
قاعدة 163
محبة الناس للعبد على قدر زهده فيما بأيديهم
معونة الله للعبد على قدر عجزه عن مصالحه، وتوصيل منافعه، ودفع مضاره. ومحبة الناس له، على قدر بعده عن المشاركة لهم فيما هم فيه. فمن ثم قويت محبة الناس في الصبيان والبهاليل، وآثروا الزهاد وأهل الخلوات على العلماء، والعارفين، وإن كانوا أفضل عند صحيح النظر.
وقد أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذا الأصل بقوله: (ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس). فدله على الوقوف في باب الله بلا واسطة ونفي الدنيا لتحقق العجز فافهم، والله سبحانه اعلم.
قاعدة 164
ألسنة الخلق، أقلام الحق
ألسنة الخلق، أقلام الحق. فثناؤهم عليه بما يرتضيه الحق ثناء من الحق عليه بذلك. فإن كان فيه فالثناء منه، وإلا فهو تنبيه وثناء، إن شكره بالقيام بحقه أتمه عليه وزاده منه وإلا سلبه عنه. والمعتبر الإطلاق العام. وما في النفوس لا ما يقع من الطعن بالجحود الذي يدل على بطلانه فقدا لترجمة المترجم، واضطراب القائل في قوله، ويظهر ذلك بارتفاع موجب النكير كالموت ونحوه. وقد صح: (إن الله إذا أحب عبدا نادى جبريل) الحديث. فيعتبر الحب بالقبول عند اللقاء ونحوه، وإلا فالعارض لا يدفع الحقيقة، والله سبحانه اعلم، فافهم.
قاعدة 165
قبول أهل الخير العطاء من إخوانهم
إكرام الرجل لدينه إن قصد به وجه الله في معاملته، واستجلاب مودته لغرض ديني، فذلك من نسبة الحق في وجوده. فلذلك قبل أهل الخير من إخوانهم والسلف من أمثالهم. ومعياره بعد تحول النية (عند) فقد الخاصية، إذ المعامل غير مضيع أجر من عامله، وإن كان لمجرد الحياة والتعظيم والنظر للمنصب ونحوه، فهو الأكل بالدين الذي نهى عنه. وفي الإكمال: أن الذي يأكل بدينه أحد الغاصبين ومن يوهم بالديانة على غير حقيقة إلى غير ذلك، وقد كان بعضهم إذا أوتي بشيء قال: (أمسكه عندك، وانظر هل تبقى نيتك بعد أخذه، كهي قبل ذلك فائتني به، وإلا فلا).
والعمل بمثل هذه الحكاية عسير فالوجه التوقف في القبول على تقدير ذلك في الوجود والله سبحانه اعلم.
وقال الجنيد رحمه الله لذلك الرجل الذي أتاه بألف دينار: (فرقها على المساكين). فقال: أنا أعلم منك بهم، ولكن أتيتك بها لتأكلها في الخلوات ونحوها. فقال: من مثلك يقبل. قال: ولمثلك يعطى. وقال بعض المشايخ: لا تأخذ إلا ممن يكون إعطاؤه إياك أحب من إمساكه، أو كلاهما هذا معناه والله سبحانه اعلم.