قال تعالى : {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ *قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ *قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ }
قلت: {هَلُم}: اسم فعل، وهو عند البصريين بسيط، وعند الكوفيين مركب. انظر البيضاوي.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {سيقول الذين آشركوا} في الاحتجاج لأنفسهم: {لو شاء الله} عدم شركنا {ما أشركنا ولا} أشرك {آباؤنا ولا حرمنا من شيء} من البحائر وغيرها، فلو لم نكن على حق مرضى عند الله ما أمهلنا ولا تركنا عليه؛ فإمهاله لنا وتركه لنا على ما نحن فيه دليل على أنه أراده منا.
والجواب عن شُبهتهم: أنه خلاف ما أنزل الله على جميع رسله، والحق تعالى لم يتركهم على ذلك، بل بعث لهم الرسل يكلفهم بالخروج عنه، والإرادة خلاف التكليف، وأيضًا: قولهم هذا لم يصدر منهم على وجه الاعتذار؛ وإنما صدر منهم على وجه المخاصمة والاحتجاج. ولا يصح الاحتجاج بالقدر. والحاصل أنهم تمسكوا بالحقيقة ورفضوا الشريعة، وهو كفر وزندقة، إذ لابد من الجمع بين الحقيقة في الباطن، والتمسك بما جاءت به الرسل من الشريعة في الظاهر، وإلاَّ فهو على باطل.
ولذلك ردّ الله تعالى عليهم بقوله: {كذلك كذب الذين من قبلهم} الرسل، فتمسكوا بالحقيقة الظلمانية، {حتى ذاقوا بأسنا} أي: عذابنا الذي أنزلناه عليهم بتكذيبهم {قل} لهم: {هل عندكم من علم} يدل على أن الله أمركم بالشرك، وتحريم ما أحل، وأنه رضي ذلك لكم، {فتخرجوه} أي: فتظهروه {انامن}، بل {إن تتبعون} في ذلك {إلا الظن}ولا تحقيق عندكم، {وإن أنتم إلا تخرصون}؛ تكذبون على الله تعالى، وفيه دليل على أن الظن لا يكفي في العقائد.
{قل} لهم: {فللَّه الحجة} على عباده، {البالغة}، حيث بعث الرسل مبشرين ومنذرين، وأمروا بتوحيد الله وطاعته، فكل من خالفهم قامت الحجة عليه، هذا باعتبار التشريع الظاهر، وأما باعتبار باطن الحقيقة، فالأمور كلها بيد الله؛ يضل من يشاء بعدله، ويهدي من يشاء بفضله، {فلو شاء لهداكم أجمعين} ولكن شاء هداية قوم وضلال آخرين، {لاَ يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ} [الأنبيَاء: 23]، فقول المشركين: {لو شاء الله...} إلخ، حق في نفسه، لكنهم لم يعذَروا؛ لإهمالهم الشريعة.
{قل هلُم} أي: أحضروا، {شهداءكم} أي: كبراءكم وأئمتكم، {الذين يشهدون أن الله حرّم هذا}، استحضرهم ليلزمهم الحجة، ويَظهر بانقطاعهم ضلالهم، وألاَّ متمسك لهم في ذلك. ثم قال لنبيه عليه الصلاة والسلام: {فإن شهدوا} بشيء من ذلك، {فلا تشهد معهم} أي: لا تصدقهم وبيِّن لهم فساده؛ {ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا}، والأصل أن يقول: ولا تتبع أهواءهم، فوضع الظاهر موضع المضمر، للدلالة على أن مكذب الآية متبع الهوى لا غير، وأن متبع الحق لا يكون إلا مصدقًا لها. {و} تتبع أيضًا {الذين لا يؤمنون بالآخرة}؛ كعبدة الأوثان، {وهم بربهم يعدلون}؛ يجعلون له عديلاً ومثيلاً.
الإشارة: اعلم أن الحقّ جلّ جلاله كلف عباده في هذا الدار، بالقيام بوظيفتين: الشريعة والحقيقة، الشريعة محلها الظواهر، والحقيقة محلها البواطن، الشريعة تقتضي التكليف، والحقيقة تقتضي التعريف، الشريعة شهود الحكمة، والحقيقة شهود القدرة، وجعل الشريعة رداء الحقيقة ولباسًا لها، ثم جعل سبحانه في القلب عينين، وتسمى البصيرة، إحداهما تنظر للحكمة فتقوم بالشرائع، والأخرى تنظر للقرة فتقوم بالحقائق. فقوم فتحوا عين الحقيقة وأعموا عين الشريعة، وهم أهل الكفر والزندقة، ولذلك قالوا: {لو شاء الله ما أشركنا}، وقوم فتحوا عين الشريعة وأهملوا عين الحقيقة، ثم وهم عوام المسلمين من أهل اليمن، فلذلك طال خصمهم للمقادير الأزلية مع إقرارهم بها، فإن أنكروها فقد عَمِيَتْ بصيرتهم.
وقوم أحبهم الله، ففتح لهم عين الحقيقة، فأسندوا الأفعال كلها إلى الله ولم يروا معه سواه، فتأدبوا في الباطن مع الأشياء كلها، وفتح لهم عين الشريعة فقاموا بوظائف العبودية على المنهاج الشرعي، وهم الأولياء العارفون بالله، فمن تمسك بالحقائق العلمية دون الشرائع كان زنديقًا، ومن تمسك بالشرائع دون الحقائق كان فاسقًا، ومن تمسك بهما كان صدِّيقًا، فمن رام تمسك بالشرائع، ولم تُسعفه الأقدار، فإن كان عن سُكر وجذب فهو معذور، وإن كان عن كسل فهو مخذول، وإن كان عن إنكار لها فهو مطرود معدود من حزب الشيطان، والعياذ بالله.
تفسير ابن عجيبة