اعلم أن الفساد الاختياري يسوقُ الصلاح الوهبي ، كما أن الصَّلاح الاختياري يسود الفساد القهري . وتربية المشايخ للمريدين كلها تدربهم على اقتحام الفساد الاختياري ، لأن الفساد الاختياري حتماً يجرّ الصلاح الوهبي ، وكلامنا هذا خاصّ بمريدي الخصوصية لا غيرهم . وكلّ من ريّض المريد في بدايته على الصلا ح الاختياري ، فقد عرّضه للفساد القهري ، ولا يعرّض المريد للفساد القهري إلاّ الجاهل بمعرفة النفس ودسائسها .
ولا شكّ أنّ الجاهل بالنفس هو الجاهل بالله ، كما أنّ العارف بالنفس هو العارف بالله ، والشيخ إذا كان جاهلا بنفسه كيف يتصوّر أن يُهذّب نَفس غيره ، الجاهل بالطريق لا يُخبر غيره به ، وإذا فعل فهو ضالّ هو ومن تبعَهُ ، كما قال الششتري في بعض كلامه حيث يقول :"من لا تَرَبَّى كيف يُرَبّي" ولا يُنتَفَعُ منه بشيء .
وأيضا سمعت الشيخ نفعنا الله به يقول :"يا أسفي على الجاهل الذي لم يعرف شيئا ، ويا أسفي على العالم الذي لم يَعمَل شيئا ، ويا أسفي على العالم العامل الذي لم يجمع بين العلم وفضل الجهل ، وبين خيْر العمل وخيْر البطلان . فمن وصل هذا المقام ، طوبَى له ، حُقَّ له الهَناءُ ، وهذا المقام يُسَمّى بمقام التمكين بالتلوّن . يقول الششتري رحمه الله :"وغايتي في الحب أن أتَلَوَّن" .
الفاني والباقي
واعلم أن المتكلم بغير الفناء ، ليس هو من أهل الفناء ، وإنّما هو كمن تعشَّق للفناء ، كما أن المتكلم بغير البقاء ليس هو من أهل البقاء ، وإنّما هو متعشّق للبقاء . وذلك لأنّ الكلام لا يكون ألاَّ عند التعشُّق ، لا عند الوصال . والتعشّق لا يكون إلاّ عند الاستشراف لا عند الوصول بالفعل . وأمّا إذا حصل الوصول بالفعل ، فالفعل ينقض القول الفاني : قوله بلسانه عزيز وفعله بذاته ذليلٌ . كما أنّ الفاني : قوله بلسانه ذليل وفعله بذاته عزيزٌ . الفاني بالذّات ، هو الباقي بالصفات ، وهذا أيضا هو الذي يُكنّى عند أهل الطريقة بالباقي بالله ، صار كلّ فان لا يقوم فناء ذاته ، إلاّ ببقاء صفاته . كما أنّ كل باق لا يقوم بقاءُ ذاته إلاَّ بفناء صفاته . لكن من لا فناء له بذاته فلا بقاء له بصفاته حتى يصير فان حقّا لا بقاءَ له بذاته ، ولا فناءَ له بصفاته ، حتى يصير باق حقّا . يقول صاحب القوانين(1) : الفَناء أساس الطريق ، به تُوصّل إلى مقام التحقيق ، وقال أيضا : كلّ باق فان ، وليس كل فان باق .
** ** **
(1) الشيخ "أبي المواهب" مؤلف كتاب"قونين حكم الإشراق إلى كافة الصوفية بجميع الآفاق".
نصيحة المريد في طريق
أهل السلوك والتجريد