آخر الأخبار

جاري التحميل ...

إيقاظ الهمم في شرح الحكم (27)

(العارِفونَ إِذا بُسِطوا أَخْوَفُ مِنْهُمْ إِذا قُبِضُوا)


كل من فتح عليه في شهود المعاني فهو عارف ، فأن تمكن من شهود المعنى على الدوام فهو واصل متمكن ، وإلا فهو سائر ، وإنما كان العارف إذا انبسط أخوف منه إذا انقبض ، لأن القبض من شأنه أن يقبض النفس عن حظوظها ومن شأنه أيضاً السكون ، والسكون كله أدب ، ومن شأن البسط أن يبسط النفس وينشطها فربما تبطش لما فيه حظها ، فتزل قدم بعد ثبوتها ، بسبب قلة آدابها ، ولذلك قال :

(وَلاَ يَقِفُ عَلَى حُدُودِ الأَدَبِ فِى الْبَسْطِ إِلاَّ قَلِيلٌ)


وهم أهل الطمأنينة والتمكين ، لأنهم كالجبال الرواسي لا يحركهم قبض ولا بسط ، فهم مالكون الأحوال ، لا يخرجهم القبض ولا البسط عن حالة الاعتدال بخلاف السائرين ، وإن كانوا عارفين فإنهم ربما تؤثر فيهم الواردات ، فيرد عليهم وارد البسط فيخرجهم عن حد الأدب ، وقد قيل :" قف على البساط وإياك والانبساط "وقال رجل لأبي محمد الحريري رضي الله عنه :"كنت على بساط الأنس وفتح على طريق البسط فزللت زلة فحجبت عن مقامي ، فكيف السبيل إليه ، دلني على الوصول إلى ما كنت عليه ، فبكى أبو محمد وقال : يا أخي الكل في قهر هذه الخطة لكني أنشدك أبياتاً لبعضهم.
ثم علل عدم الوقوف على حدود الأدب في البسط ، فقال :

(الْبَسْطُ تَأْخُذُ النَّفْسُ مِنْهُ حَظَّهَا بِوُجُودِ الْفَرَحِ ، وَالْقَبْضُ لاَ حَظَّ لِلنَّفْسِ فِيهِ)


لأن البسط جمال ، والقبض جلال ، ومن شأن الجمال أن يأتي بكل جمال وأين هو الجمال ؟ ثم هو عين الجلال ، أين هو حبيبك ثم هو عدوك أين هو الربح ؟ ثم هو الخسارة ومعنى ذلك أن الموضع الذي يلائم النفس ويليق بها ثم هو خسارة القلب وحجاب الروح لأن الموضع الذي تحيى به النفس ، يموت فيه القلب والموضع الذي تموت فيه النفس ، يحيى به القلب والروح ولذلك قال إبن الفارض رضي الله عنه :


الموت فيه حياتي      وفي حياتي قتلي


وكتب يوسف بن الحسين الرازي رحمه الله إلى الجنيد رضي الله عنه :" لا أذاقك الله طعم نفسك ، فإنك أن ذقتها لا تذق بعدها خيراً أبداً" .
وقال أبو علي الدقاق رضي الله عنه :" القبض حق الحق منك ، والبسط حقك منه ولأن تكون بحق ربك أولى من أن تكون بحظ نفسط ".وهذا كله في حق السائرين ، وأما الواصلون المتمكنون فلا يؤثر فيهم جلال ولا جمال ، ولا يحركهم قبض ولا بسط كما تقدم لأنهم بالله ولله ومن الله وإلى الله بالله تصرفهم ولله عبوديتهم ومن الله ورودهم ، وإلى الله صدورهم لأنهم لله لا لشيء دونه . قال الجنيد رضي الله عنه :" الخوف يقبضني ، والرجاء يبسطني والحقيقة تجمعني ، والحق يفرقني ، إذا قبضني بالخوف أفناني عني وإذا بسطني بالرجاء ردني علىّ ، وإذا أجمعني بالحقيقة أحضرني وإذا فرقني بالحق أشهدني غيري ، فغطاني عنه فهو في كل ذلك محركي غير مسكني ، وموحشي غير مؤنسي بحضوري لذوق طعم وجودي ، فليته أفناني عني فمتعني أو غيبني عني فروحني ".
قوله رضي الله عنه : الخوف يقبضني : لأن العبد في حالة الخوف يشهد ما منه إلى الله من الإساءة ، فينفتح له باب الحزن وفي حالة الرجاء يشهد ما من الله إليه من الإحسان فينفتح له باب الرجاء والبسط .
وقوله : والحقيقة تجمعني : أن تغنيني عن نفسي وتجمعني به فلا نشهد إلا ما من الله إلى الله فلا قبض ولا بسط . 
وقوله : والحق يفرقني : المراد بالحق الحقوق اللازمة للعبودية فلا ينهض إليها إلا بشهود نوع من الفرق ، وإن كان نهوضه بالله .وقوله : إذا قبضني بالخوف أفناني عني : أي إذا تجلى لي بإسمه الجليل ذاب جسمي من هيبة المتجلي وإذا بسطني بالرجاء بأن تجلى لي بإسمه الجميل أو الرحيم رد نفسي ووجودي عليّ ، وإذا جمعني إليه بشهود الحقيقة أحضرني معه بزوال وهمي ، وإذا فرقني بالحق الذي أوجبه علي للقيام بوظائف حكمته أشهدني غيري ، حتى يظهر الأدب مني معه وقد يقوي الشهود فلا يشهد الأدب إلا منه إليه وقوله : فغطاني عنه : لأن العبد في حالة النزول إلى سماء الحقوق أو أرض الحظوظ قد يرجع لمقام المراقبة لكنه غير لازم وسيأتي للمؤلف بل نزلوا في ذلك بالله ومن الله وإلى الله فعلى هذا لا تغطية للعبد في حالة النزول للحق أصلاً . 
وقوله : فهو في كل ذلك محركي غير مسكني : يعني أن الحق تعالى حين يقبضه بالخوف أو يبسطه بالرجاء أو يجمعه بالحقيقة أو يفرقه بالحق هو محرك له ليسيره إليه ويحوشه إليه ، غير مسكن له في مقام واحد وموحشه عن عالم نفسه غير مؤنس له بها ، بسبب حضوره مع عوالمه البشرية ، فيذوق طعم وجودها ، فإذا غيبه عنه عرف قدر ما من به عليه ، ولذلك قال : فليته أفناني عني أي عن رؤية وجودي ، فمتعني بشهوده أو غيبني عن حسي ، فروحني من الحقوق التي تفرقني عنه بإسقاطها عني في حالة الغيبة ، وكأنه مال إلى طلب السلامة خوفاً من الوقوع فيما يجب الملامة وإن كان الكمال هو الجمع بين العبودية وشهود الربوبية والله تعالى أعلم .ثم ذكر أسباب القبض والبسط وهو العطاء والمنع في الغالب فقال : 

(رُبَّمَا أَعْطَاكَ فَمَنَعَكَ ، وَ رُبَّمَا مَنَعَكَ فَأَعْطَاَكَ)


الغالب على النفس الأمارة واللوامة أن تنبسط بالعطاء و تنقبض بالمنع لأن في العطاء متعتها وشهوتها ، فلا جرم أنها تنبسط بذلك وفي المنع قطع موادها وترك حظوظها ولا شك أنها تنقبض بذلك وذلك لجهلها بربها وعدم فهمها فلو فهمت عن الله لعلمت أن المنع عين العطاء ، والعطاء عين المنع كما يأتي فافهم أيها الفقير عن مولاك ، ولا تتهمه فيما به أولاك فربما أعطاك ما تشتهيه النفوس ، فمنعك بذلك حضرة القدوس وربما منعك ما تشتهيه نفسك فيتم بذلك حضورك وأنسك ربما أعطاك متعة الدنيا وزهرتها فمنعك جمال الحضرة وبهجتها وربما منعك زينة الدنيا وبهجتها فأعطاك شهود الحضرة ونظرتها ربما أعطاك قوت الأشباح فمنعك قوت الأرواح ، وربما منعك من قوت الأشباح فمتعك بقوت الأرواح ربما أعطاك أقبال الخلق فمنعك من أقبال الحق ، وربما منعك من أقبال الخلق فأعطاك الأنس بالملك الحق ربما أعطاك العلوم وفتح لك مخازن الفهوم ، فحجبك بذلك عن شهود المعلوم ومعرفة الحي القيوم ، وربما منعك من كثرة العلوم وأعطاك الأنس بالحي القيوم فأحطت بكل مجهول ومعلوم ربما أعطاك عز الدنيا ومنعك عز الآخرة ، وربما منعك من عز الدنيا وأعطاك عز الآخرة ربما أعطاك التعزز بالخلق ومنعك من التعزز بالحق ، وربما منعك من التعزز بالخلق ، وأعطاك التعزر بالملك الحق ربما أعطاك خدمة الكون فمنعك من شهود المكون ، وربما منعك من خدمة الكون ، وأعطاك شهود المكون ربما أعطاك التصرف في الملك ومنعك دخول الملكوت ، وربما منعك من التصرف في الملك ومنحك شهود الملكوت ربما أعطاك أنوار الملكوت فمنعك الترقي إلى بحر الجبروت ، وربما حجب عنك أنوار الملكوت فأعطاك الدخول إلى حضرة الجبروت ربما أعطاك القطبانية ومنعك التمتع بشهود الفردانية ، وربما منعك القطبانية ومتعك بشهود سر الوحدانية إلى غير ذلك مما لا يحصيه إلا علام الغيوب قال ابن العربي الحاتمي رضي الله عنه :"إذا منعت فذاك عطاؤه ، وإذا أعطيت فذاك منعه فأختر الترك على الأخذ" . وشاهده قوله تعالى :( وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ) الآية ، فإذا فهمت هذا علمت أن المنع هو العطاء كما بينه بقوله :

(مَتَى فَتَحَ لَكَ بابَ الفَهْمِ في الَمْنعِ، عَادَ الَمْنعُ عَينَ العَطَاء )


إذا فهمت أيها العبد عن الله بعد تحققك برحمته ورأفته وكرمه وجوده ونفوذ قدرته وإحاطة علمه علمت أنك إذا سألته شيئاً أو هممت بشئ أو أحتجبت إلى شيء فمنعك منه ، فإنما منعك ذلك رحمة بك وإحساناً إليك إذ لم يمنعك من بخل ولا عجز ولا جهل ولا غفلة وإنما ذلك حسن نظر إليك وإتمام لنعمته عليك لكونه أتم نظر وأحمد عاقبة ( وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) فربما دبرنا أمراً ظننا أنه لنا فكان علينا وربما أتت الفوائد من وجوه الشدائد والشدائد من وجوه الفوائد ، وربما كمنت المنن في المحن والمحن في المنن ، وربما أنتفعنا على أيدي الأعداء وأوذينا على أيدي الأحباء ، وربما تأتي المسار من حيث المضار ، وقد تأتي المضار من حيث المسار ولأبي الحسن الشاذلي رضي الله عنه في حزبه : اللهم إنا قد عجزنا عن دفع الضر عن أنفسنا من حيث نعلم بما نعلم فكيف لا نعجز عن ذلك من حيث لا نعلم بما لا نعلم ؟ فمتى فتح لك أيها المريد باب الفهم عنه في المنع وعلمت ما فيه من الشر والخير وحسن النظر لك ، عاد المنع في حقك هو عين العطاء ومثال ذلك كصبي رأى طعاماً حسناً أو حلواء أو عسلاً وفيه سم وأبوه عالم بما فيه فكلما بطش الصبي لذلك الطعام رده أبوه ، فالصبي يبكي عليه لعدم علمه وأبوه يرده بالقهر لوجود علمه ، فلو عقل الصبي ما فيه ما بطش إليه ، ولعلم نصح أبيه وشدة رأفته به . كذلك العبد يبطش للدنيا أو الرياسة أو غير ذلك مما فيه ضرره فيمنعه الحق تعالى منه رحمة به وشفقة عليه وإعتناء به فإذا فهم عن الله سلم الأمر إلى مولاه ولم يتهمه فيما أبرمه وقضاه وإذا لم يفهم عن الله تحسر وربما سخط فإذا إنكشف له سر ذلك بعد علم ما كان في ذلك من الخير ، لكن فاتته درجة الصبر لقوله عليه السلام :
" إنما الصبر عند الصدمة الأولى " وانظر قضية الرجل الذي كان يسكن في البادية وكان من العارفين فاتفق له ذات يوم أن مات حماره وكلبه وديكه ، فأتي إليه أهله فقالوا له حين مات الحمار : مات حمارنا فقال خير
ثم قالوا : مات الكلب فقال خير 
ثم قالوا : مات الديك فقال خير فغضب أهل الدار وقالوا: 
أي خير في هذا متاعنا ذهب ونحن ننظر ، فاتفق أن بعض العرب ضربوا 
على ذلك الحي في تلك الليلة فاجتاحوا كل ما فيه ، وكانوا يستدلون 
على الخيام بنهيق الحمار ونباح الكلاب وصراخ الديكة ، فأصبحت خيمته 
سالمة إذ لم يكن بقي من يفضحها فانظر كيف كان حسن نظر الحق لأوليائه وحسن تدبيره لهم وكيف فهم الرجل العارف ما في ذلك من السر في أول مرة فهذا هو الفهم عن الله رزقنا الله من ذلك الحظ الأوفر أمين . 
قال الشبلي :"الصوفية أطفال في حجر الحق تعالى". 
يعني أنه يتولى حفظهم وتدبيرهم على ما فيه صلاحهم ولا يكلهم إلى أنفسهم والله تعالى أعلم . 
وسبب عدم الفهم عن الله هو الوقوف مع ظواهر الأشياء دون النظر إلى بواطنها .

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية