آخر الأخبار

جاري التحميل ...

  1. جزيتم خيرا علي المجهود الجميل.لكن أنا اسوق العذر للعالم النحرير والبحر الغزير.العلامة جلال الدين السيوطى لما بلغنا عنه شفاهة من رجال نقلوا عن رجال عنه رضي الله عنه كرامات ومعرفة بعلوم الحقائق.
    فربما كان معزورا في هذا القول وربما له وجهة نظر فيها والله اعلم

    ردحذف

كتاب : الحقيقة القلبية الصوفية / أحمد لسان الحق (26).

إن العجز عن الوصول إلى الحقيقة الغيبيّة من طبيعة العقول ، المحدودة الإدراك ، والمقيّدة بعوامل الزمان والمكان ، وليس من طبيعة الأرواح الطيّبة الطاّهرة ، المطلقة من أسر المادّة المحرّرة من رِبقتها وكثافتها.. إن النفس تتجاوبُ مع العقل ، والروح تتجاوب مع القلب . والنفس ماديّة ترتبط بالعالم الماديّ ، وتتأثَّر بعوامله ، والروح معنويّ ترتبط بالعالم النورانيّ ، وتتأثر بعوامله ، والقوّة العقليّة تستعمل في المادّة ، والروحيّة فيما وراءَها ، كما يرى ابن خلدون . فكان من الطبيعيّ أن تنصبَّ التحليلات العقليّة ، وجهود المفكرين على النفس ، بدل الروح .

وقد خلطوا الأوراق ، ما بين النفس الأرضيّة الترابيّة ، التي تقع في عالم الشهادة ، وفي مِلك البشر ، وبين الروح النّورانية السماويّة ، التي تقع في عالم الأمر ، وفي ملكوت الله . ويتجلّى الخلط فيما نقله الإمام السيوطي حول من عرف نفسه عرف ربّه ، من أنه من باب التعليق بما لا يكون . وذلك أنّ معرفة النفس قد سدّ الشارع بابها . بقوله (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) على الرغم من أن منطوق الآية يدلّ على أن الموضوع الذي سدّ الشارع باب معرفته أمام الخلق ، واستأثر تعالى بالإحاطة بعلمه وحقيقته هو عالم الروح : عالم ما فوق طبيعة النفوس ، ومدركات العقول ، وتحليلات العلماء...

وإلاّ ، فكيف نوفّق بين قوله :"فكأنه في قوله : من عرف نفسه عرف ربّه علّق المستحيل على المستحيل" وبين تفسير ابن عباس في قوله تعالى :(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) أي ليعرفوني ، وما ورد في الحديث القدسيّ (كُنتُ كَنزاً مَكَتوماً فَخَلَقتُ الخَلقَ ليَعرِفوني) ؟ وإنه غير وارد أن يخلق الله الجنَّ والإنسَ ليعرف ولا يجهل ، ويسدّ أمامهم باب معرفته ، ويجعلها - في حق من لم يعرف نفسه -من باب تعليق المستحيل على المستحيل .

قد يستحيل على الإنسان أن يعرف حقيقة نفسه ودقائقها ، كما هي ، كما يستحيل عليه أن يعرف كنهَ حقيقة خالقه ، كما هو ، لكن هل معرفة الله تتعلّق بالبداية المفتوحة أمام كل مؤمن طهّر الله قلبه ، وصفّى سريرتَه ، ونال رضاه .والناس حولها يختلفون في الدرجات والمقامات ، كما دلّ عليه قوله تعالى :(نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) (97)أو تتعلّقُ بالنهاية . حيث لا نهاية لأسرار الذات العالية ؟ إنّ أصحاب الحقيقة الصوفيّة ، والمعرفة الربانيّة ، يشبّهون أسرار الذات العلية بالبحر ، والعارفين بالغوّاصين ، وكل غوّاص يتحدّث عمّا رآه وما وصل إليه ، كما يتحدّث كل عارف من مقامه ودرجته في المعرفة الإلهية . والغوّاص يستحيل عليه أن يحيط بمحتويات البحر ، كما يستحيل على العارف أن يحيط بأسرار الذات (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) وإنما إذا كانت الأمور نسبيّة ، واعتبرنا الفرق بين درجات المعرفة من جهَة ، وبين ميزة العارف لبعض الشيء على الجاهل له بالمرّة من جهة أخرى ، فالغوّاص عارف بالبحر ، والولي عارف بالله . 

ومن ثَمَّ فالحقيقة الشرعيّة عامّة موحَّدة تدركها العقول ، والحقيقة الغيبيّة ، خاصّة ساميّة عن مدركات العقول ، وتختلف باختلاف مقامات أصحابها . فلا يخاطب بها من غلبت عقلانيّته على روحانيّته ، فيكذّب بها ، ويعود التكذيب إلى مصدرها ، وهي لله ولرسوله . وفي ذلك قال الإمام البخاري :"باب من خصَّ بالعلم قوما دون قوم كراهية أن لا يفهموا ، وقال عليّ رضي الله عنه :"حدّثوا الناسَ بما يعرفون أَتُحِبّون أن يكذّب الله ورسوله ؟"(98) وهذا النوع من العلم ، الذي فوق العقل والمنطق ، ولا يُحدَّث به إلاّ الذين يعرفونه ، وإذا حدّث به غيرهم يُكذّب ، نتيجة عدم وضع الأمور مواضعها ، وتوجيه الخطاب لكل قوم بما يعرفون ، وما تهضمه عقولهم ، هو علم الحقيقة الغيبية ، والمعرفة الربانيّة ، الذي أكرم الله به الأولياء والعارفين ، دون اشتراط معرفة النفس في معرفته تعالى.. وبوجودهم في كل طبقة ينفضُّ القول بتعليق المستحيل على المستحيل .

وإذا رأوا أنه من المحال أن يعرف الإنسان حقيقة نفسه ، التي لا يعرف حقيقتها إلاّ الذي خلقها ، كما يفهم من دعاء أصحاب الحقيقة الصوفيّة :"اللهمَّ عرِّفنا بأنفسنا" فمن الشطحات الفكريّة أن تعلّق معرفته تعالى بالمحال - وهي المصير الذي خلق الجنَّ والإنس من أجله - ونضع الموانع النفسيّة ، ونسدّ الطرق المفتوحة ، ونغلّق كل الأبواب - عدا باب معرفة النفس - وفي وجه المؤمن الذي يحاول أن يعرف خالقه بوسائل مشروعة . والصواب مع أصحاب الحقيقة الصوفيّة ، إذ يقولون :"الطرق المؤدية إلى الله كعدد النجوم" إنما لا تضمن بأيّ أسلوب أو عمل ؛ لأنها من باب الفضل والكرم ، ولكن لا يقنّط منها أيّ مؤمن . وعبر التاريخ قد عرَف الله مالا يدخل تحت العدّ . وهل كلّ الذين عرفوه -ومن بينهم أميّون - عرفوا حقيقة أنفسهم ودقائقها ؟ .

وإذا كان علم الحقيقة الغيبيّة ، والمعرفة الربانيّة ، ينطلق من الرحمة ، التي مكانها القلب ، الذي به يعرف الله ، كما تقدم في قوله تعالى :(آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا) وقوله :(وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) فهذا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفض تضييق المتّسع من رحمة الله ، التي لا معرفة ربّانية بدونها ، إذ المرحومون في المقام الأول هم العارفون ، الذين نالوا رضاه ، وليس الغافلون والمخالفون ، الذين استحقوا غضبه . وفي الموضوع ما جاء في صحيح البخاري في قضيّة الأعرابي الذي بال في المسجد ، وعامله الصحابة بعنف ، وعامله الرسول صلى الله عليه وسلم برفق ، فقال :"اللهمَّ ارحمني ومحمداً ، ولا ترحم معنا أحداً" فقال النبي صلى الله عليه وسلم :(ضَيَّقْتَ مُتَّسَعاً يا أَخاَ العَرَبِ) فكان على العلماء أن يكونوا بآرائهم مصدرالرحمة والتفاؤل ، كي لا يثبِّطواعزائم الراغبين في معرفة الله ، وأن لا يضيّقوا أيّ ميدان وسَّعَهُ الله على عباده ، مع الدِّقة في الوقوف عند أوامره تعالى ونواهيه . وفي ذا المعنى يقول الإمام عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه :"أَلاَ إنَّ الفَقيهَ ، الذي لايُقَنِّطُ النّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ ، وَلاَ يُؤَمِّنُهُمْ مِنْ عَذابِهِ ، وَلاَ يُرَخِّصُ لَهُمْ في مَعاَصْي اللهْ ، وَلاَ يَدَعُ القُرآن رَغْبَةً عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ" .(99)

**    **    ** 

97 - سورة يوسف : 76
98 - تقدّم
99 - حلية الأولياء 77/1

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية