{ لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي ٱلْبِلاَدِ} * { مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ } * { لَكِنِ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ وَمَا عِندَ ٱللَّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ }
قلت: النُزل - ويسكن -: ما يقدم للنازل من طعام وشراب وصلة، وانتصابه: على الحال من { جنات } ، والعامل فيه: الظرف، أو على المصدر المؤكد، أي: أُنزلوها نزلاً. يقول الحقّ جلّ جلاله: { لا يغرنك } أيها السامع أو أيها الرسول، والمراد: تثبيته على ما كان عليه، كقوله: { فلا تطع المكذبين } ، أي: دم على ما أنت عليه من عدم اغترارك بظاهر ما ترى عليه الكفار من البسط في الدنيا، والتقلب فيها بالتجارات والزراعات، وما هم عليه من الخصب ولين عيش، فإن ذلك { متاع قليل } بلغة فانية، ومتعة زائلة، وظلال آفلة، وسحابة حائلة. قال صلى الله عليه وسلم: " ما الدُّنْيا في الآخِرَةِ إلاَّ مِثْلُ ما يَجْعَلُ أَحَدُكُم إصْبَعَهِ في اليَمِّ، فَلْيَنْظُر بِمَ يَرْجِعَ " فلا بد أن يرحلوا عنها قهراً، { ثم مأواهم } أي: مصيرهم { جهنم وبئس المهاد } ما مهدوا لأنفسهم. والمعتبر عند الأكياس هو ما أعد الله للمتقين من الناس، قال تعالى: { لكن الذين اتقوا ربهم } وخافوا عقابه، { لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها } ، هيأ ذلك لهم وأعده { نزلاً من عند اللهه } هذا النزول الذي يقدم للضيف، وأما ما أعد لهم بعد النزول فلا يُعتبر عن لسان، ولذلك قال: { وما عند الله } من النعيم الذي لا يفنى، جسماني وروحاني، { خير للأبرار ه} مما ينقلب إليه الفجار. قيل: حقيقة البر: هو الذي لا يؤذي الذر. الإشارة: لا يغرنك أيها الفقير ما ترى عليه أهل الدنيا من اتخاذ المنازل المشيدة، والفرش الممهدة، فإن الدنيا متاعها قليل، وعزيزها قليل، وغنيها فقير، وكبيرها حقير، واعتبر بحال نبيك - عليه الصلاة والسلام. قال أنس رضي الله عنه: دَخلتُ علَى النبيّ صلى الله عليه وسلم وهُو على سَرِير مرفل بالشريط - أي: مضفور به - وتحت رَأسِهِ وسَادَةٌ من أَدَم، حَشْوُهَا لِيفٌ، فدل عليه عمر، وانحرف النبيّ صلى الله عليه وسلم انحرافة، فرأى عمر الشريط في جَنْبِهِ، فَبكَى، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: " ما يُبْكِيكَ يا عمر " ؟ فقال: مَالِيَ لا أبْكِي وكِسْرى وقَيْصَرُ يعيشان فيما يعيشان فيه من الدنيا، وأنت على الحال الذي أرى، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: " يا عمر أمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لهُم الدُّنيا وَلَنا الآخرَةُ " رواه البخاري. وانظر ما أعدّ الله للمتقين الأبرار، الذين صبروا قدر ساعة من نهار، فأفضوا إلى جوار الكريم الغفار في دار القرآن، { وما عند الله خير للأبرار } ، ولا سيما العارفين الكبار. قال الورتجبي: بيِّن الحق - تعالى - رفعة منزل المتقين في الجنان، ثم أبْهم لطائف العناية بقوله: { وما عند الله خير للأبرار } أي: ما عنده من نعيم المشاهدة، ولطائف القربة، وحلاوة الوصلة، خير مما هم فيه من نعيم
الجنة، وأيضاً: صرح في هذه الآية ببيان مراتب الولاية، لأنه ذكر المتقين، والتقوى: تقديس الباطن عن لوث الطبيعة، وتنزيه الأخلاق عن دنس المخالفة، وذلك درجة الأولى من الولاية، والأبرار أهل الاستقامة في المعرفة، وبين أن أهل التقوى في الجنة، والأبرار في الحضرة .