لا أحد ينكر قيمة التصوف الإسلامي الدعوية . ففضله في نشر الإسلام في مختلف بقاع العالم يشهد به التاريخ .
وكلنا يعلم أن الإسلام وصل إلى قلوب الناس . عبر الكلمة والموعظة الحسنة والخلق القويم الذي تحلى به رجالات التصوف المخلصين من خلال معاملاتهم التجارية ورحلاتهم العلمية . نبراسهم في ذلك الحديث النبوي الشريف : "خاطبوا الناس على قدر عقولهم وأنزلوا الناسَ منازلهَم" فكانت الحكمة النبوية هاديهم والاحتكاك العملي وسيلة يتبادل فيها الناس المنافع الحسية ومعها القيم الإيمانية التي كانت ماثلة بينهم من مثل النزاهة والصدق والأمانة والبذل والإيثار وحب الخير للناس.
إن الأخلاق العملية خير سفير للإسلام في سائر المجتمعات ومن هنا ، تتجلى قوة التصوف الإسلامي في تشربه للقيم الأخلاقية السامية وقدرته الفائقة على تقريب الناس من الدين بل وتغيير عوائدهم وتكييفها وفق المقاصد الشرعية الكبرى ، فخرق بذلك حدود المكان والزمان .
إن التصوف إذن أعطى للدين الإسلامي هذه القدرة المتميزة في مخاطبة جميع الشعوب وبمختلف مستوايتها الحضارية والفكرية والدينية والروحية ، لأنه يخاطب الفطرة التي فطر الله الناس عليها .
ونظرا لطبيعة التصوف الأخلاقية والفطرية ، فإنه نجح في زماننا المادي في زرع بدور المحبة والإيمان والتسامح في مجتمعات الحداثة والعقلانية التي تريد الآن الاستمساك بقارب النجاة مخافة الغرق في أمواج الثقافة الاستهلاكية القاتلة والتي خلفت أُسراً مُتفكّكَة وطفولة حائرة ومجتمعات بدون هوية ولا خصوصية تتخبط في القلق والاكتئاب وانعدام الاستقرار رغم توفر الشروط المادية الرغدة .
وهكذا ، يجد التصوف مكانة - كما كان في الماضي - في قلوب أهل الحداثة الغربية المتعطشين لقيم التوازن النفسي والأخلاقي ، وهذا ما يفسرفي زمننا اليوم اعتناق العديد من الغربيين على اختلاف مشاربهم الثقافية ومستوياتهم المادية للدين الإسلامي عبر التصوف باعتباره خطابا روحيا يمس أعماق وجدانهم ويخول لهم التأمل في التجربة الدينية الإسلامية والنظر فيها بمعايير جديدة تصحح رؤيتهم للدين الإسلامي ويقتربون منه كخطاب مودَّة ورفْق وتآلف وتراحم وتسامح وليس خطاب عنف وتطرف وتقاتل وتنابذ واستئصال وبُغض وكراهية .
ويكفي التصوف فخرا أن بقي درعا أمينا للإسلام يحفظ له نضارته وإشعاعه الإنساني وصورته الربانية المشرقة خصوصا بعد أحداث 11 سبتمبر التي كانت سببا في إقبال كثير من أهل الغرب على الإسلام باحثين عن حقيقته الروحية وقيمته الأخلاقية .
** ** **
د.منير القادري بودشيش
باحث في التصوف والتواصل
المصدر : مجلة "الإشارة"