أما بعد : فإن الحقيقة الالهية تتعالى ان تشهد بالعين التي ينبغي لها أن تشهد وللكون أثر في عين المشاهد ، فإذا فني ما لم يكن وهو فان ، ويبقى من لم يزل وهو باق ، حينئذ تطلع شمس البرهان لادراك العيان، فيقع التنزه المطلق في الجمال المطلق وذلك عين الجمع والوجود ، ومقام السكون والجمود ، فترى العدل واحداً لكن له سير في المراتب فيظهر بسيره أعيان الأعداد ، ومن هذا المقام زل القائل بالاتحاد، فإنه رأى مشي الواحد المراتب الوهمية، فاختلفت علل الأسماء باختلاف المراتب ، فلم يرى العدد سوى الأحد فقال بالإتحاد . فإذا ظهر بإسمه لم يظهر بذاته فيما عدا مرتبته الخاصة وهي الوحدانيّة ، وسهما ظهر في غيرها من المراتب بذاته لم يظهر إسمهُ وسُمّيَ في تلك المرتبة بما تعطيه حقيقته تلك المرتبة فباسمه يُفني وبذاته يُبقي ، فإذا قلت : الواحد فنى ما سواه بحقيقة هذا الاسم ، وإذا قلت : اثنان ظهر عينها بوجود ذات الواحد فى هذه المرتبة لا باسمه ، وأن اسمه يناقض وجود هذه المرتبة إلا ذاته، وهذا الفن من الكشف والعلم يجب ستره عن أكثر الخلق لما فيه من العُلُوّ ، فغُورُه بعيد ، والتلف فيه قريب فإنَّ ﻣﻦ ﻻ ﻣﻌﺮﻓﺔ ﻟﻪ بالحقائق ولا بامتداد الرقائق ، ويقف على هذا المشهد من لسان صاحبه المتحقق به ، وهو لم يذقه ، ربما قال ( أنا من أهوى ومن أهوى أنا ) فلهذا نسترُه وتكتمُهُ ، وقد كان الحسن البصري إذا أراد إن يتكلّمَ في مثل هذه الأسرار التي لا ينبغي لمن ليس من طريقها أن يَقِفَ عليها ، دعا فرقد السبخي ومالك بن دينار وغيرهما وأغلق بابه وتحدّثَ معهم فيها ، فلولا وجوب كتمه ما فعل هذا . وفي البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه :" حملتُ عن النبي صلى الله عليه وسلم جرابَين ، أما أحدهما فبَثَثْتُهُ ، وأما الآخر فلو بثثته لَقُطِعَ مني هذا الحلقوم " ، قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى :(اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ) لوذكرتُ تفسيرُهُ لرجمتُموني وَلَقُلْتُمْ كافر . وكان عليُّ ابن أبي طالب كَرَّم الله وجهه يضرب على صدره ويقول :" آه، إن ها هنا لعلوم جمة ما وجدت لها حملة" ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم :"خاطِبوا النَّاسَ علَى قَدْرِ عقُولِهم" فينبغي لمن وقع في يده كتاب في علم لا يعرفه ولا سلك طريقه أن لا يبدي فيه ولا يعيد، وأن يرده إلى أهله، ولا يؤمن به ولا يكفر، ولا يخوض فيه البثّة ، رُبَّ حاملٍ فقهٍ ليس بفقيه ، بل كذّبُوا بِمَا لَمْ يُحيطوا بعِلْمِهِ ، فَلِمَ تُحاجّونَ فيمَا لَيسَ لكُم بِهِ علمٌ . فقد ورد الذَّمُّ حيثُ تكلّموا فيما لم يسلكوا طريقه . أهل الأفكار تسلّطوا بأفكارهم ، وأهل الظاهر بأدنى احتمالات الكلام على أسرار أولياء الله فيقَعُوا فيهم ، ولو سُئلوا عن اصطلاح القوم ما عرفوه ، فكيف ينبغي لعلماء أن يتكلّمُوا فيمَا لَم يُحْكِموا أصلَهُ ، وربّما إذا رأوأ أهل الله يَتَكَتَّمون هذه الأسرار يقولون دينٌ مُكتِمٌّ وما عرفوا جهات الدّين ، ومَا تَكَتَّموا بالدّين وإنّما تكتّموا نتائجه وما قد به طلبهم الحق ، وربّما عندهم من أحاديث الأحكام ما ضعّفه علماء الرّسوم وجَرَحوا نقلَته ، وعلم وجَدوه في الكشف صحيحاً فتعبّدو به ، فنسبوهُم إلى الخروج من الدّين ، ورُبَّ حديث اتفقوا على صحته وهو ليس بصحيح من طريق الكشف ، فيتركون العمل به فيَقدحون فيهم أيضا ، فمَا أحسن من سلّم واستسلَم واشتغل بنفسه فذلك السعيد الفائز بحقائق الوجود .
وإنما سَتَروا أسرارهم بألفاظ اصطلحوا عليها غيرةً من الأجانب والقائلون بوجود الأثر ، وياليتهم لا يزالون مقيمين على مناهجهم حتى تلوح لهم أعلامٌ بأيدي الروحانيات العُلى ، القائمين بالمرتبَة الزلفى ، مِن مَقام الْفَهْوَانِيَّةِ ، فيها كُتُبٌ مرقومَةٌ مقدَّسَةٌ . وتقوم بهم شواهدٌ على تحقيق ما هم عليه ، وتعظيم الانتقال عن هذا الوصف إِلى وصف آخر انتقالا شريفًا سرّها فيه ، يهتِكُ ستر الساتر فيكشفُ ما ستر ويُنكرُ مسمّاه ويحلُّ قفلهُ ويفتح نغالته ويتّحد همَّ ذكر الآخر بمطالعة الحقيقة الأحديّة فلا يَرَى إلّا همًّا واحدًا ، عنهُ تكون الآثارُ على الحقيقة ، فتارةً يكونُ عنه تجريدًا وتارةً عند تكوُّن هذه الِهمَم عنه ُ، فهو المتوجّهُ إليه بكل وجه وإن لم يُعْلَمْ ، والمطلوب بكلّ علْمٍ وإن لم يوصَلُ إليه ، والمنطوقُ بكُلِّ لِسانٍ وإن لم يقال . فما أشدّها من حيرة وما أعظمها من حيرة ، إذا كُشفَ الغطاءُ واتحدَ البصر وجُمِعَ الشمسُ والقمر وظهر المؤاثرُ في الأثر ، وأُدركَ بعيون البشر ، وتحرّك لهم في الصّدور ، ووقع المَكْرُ بمَنْ نَكَرْ ، ورَبحَ من آمنَ وخسرَ من كفَر . وجاء الخطابُ الإلهي باللّسان الأقدس المترجم عنه بعبادة الإخلاص . فمن استخلص عبادَتَهُ من يد جزائيه وكان حنيفيّ المذهب قريب المذهب فقد وفى بالإمتثال للأمر وكان من عالم النور ، ولا من عالم الأجر . الله نورُ السماوات والأرض ، لهم أجرُهم ونورُهم ، نورُهم يسعى بين ايديهم . فيقول أنارَ بكمُ فيتبعونَهُ . فالجزاء عند المحقّقين مصروفٌ إلى الله لا يتمكّنُ عنه ، لهم طلَبٌ له منه لِضِيقِ الوقت والشغل به تعالى أوكدُ لهم . فمن فاتهُ حظّهُ من الله فذاك الخاسرُ والعامل يطلب ثوابَهُ بحالِهِ . فلا تشغل نفسك به فإنّ حركة الأبدان لابدّ لها من حركتها المحسوسة ، فلا تسأل ما تعطيه الحركات بذاتها فلا تضيّع وقتك عليك ، فكما أنّ الحقَّ كل يوم هوَ في شأنٍ واليوم الزّمَنُ الفرْدُ ، وشأنهُ في حقّكَ ، فإنّ ذلك يوجِدُ ويُكَوِّنُ لا لنفسه لتنزُّهِهِ عن الأغراض ويعود عليه من خلقه ما لم يكن عليه ولا خلق . فمن أجلكَ يخلق فكن في مقابلة هذا الأمر واشتَغلْ وكن أنت كل يوم في شأنِ ربِّكَ فإنّه ما خلقَكَ إلا لتعبدهُ وتتحقَّق به ، لا تطلب الشغل بغيره فمَا سواكَ وسواهُ رزقٌ لكَ فإليك يصلُ (مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ) الآية ، فإذا قال لك : خُد ، فقل : أنت ، وإذا قال لك : ارجع ، فقل : منك إليك ، فإن قال لك : كيف أقول لك خد فتقولُ أنتَ وأنا لا أتخد ؟ فقل له : وكذلك أنا لا آخد ، فإن الأخد فِعْلٌ ولا فعْلَ لي ، فأنت الآخد إذ أنت الفاعل ، فخُد أنـتَ بي ما أعطيتني ، ولا تقل خدْ يا من لا بأخده يحجبني بالأخد عنك ولا أخْدَ لي فأحصُلُ في العَدم وهو أشرُّ الشرور ، فاللاءِ قالَةُ ألاءِ قالةُ من هذا الخطاب المهْلِكِ يامن يُدركُ ولا يُدركُ ويَملكُ ولا يُملَك . وربّما يقال لك في بعض هذه المواطن الدّين المستقيم الحكمي النبوي الإختصاصي ، والدين الغير المستقيم الحكمي الممزوجي الفكري . وتخيَّر بينهما وترى غاية كل طريق منهما الحق تعالى ، من حيث سعادتك لا من حيث الشقاوة ، فاسلك الدّين الخالص فإنه أنفع وأرفع وإن كان الآخررفيع ولكن بوجود الأول يضمحل رسمه وإن كان حقا . ربما لو كان واضعه حاضرا لرجع إلى دين الاختصاصي ، فنحن نرى الدين الاختصاصي ، أليست الشرائع التي كان عليها الأمم قد نسخت بعد وجدها شرع محمد صلى الله عليه وسلم ، فقد قال : "لو كان موسى حَيًّا ما وَسِعَهُ إلّا اتباعي " فأجرى الشرع الحكمي أولا بالرفع وإن كان حقّا من وَجْدٍ . ثم لتعلم أنّ أشقى الأشقياء صاحب كتابٍ ضلّ واتَّبع هواهُ مع إيمانه بكتابه ، لكن هنا نكتة يغلطُ فيها خلقٌ كثيرٌ من حيث الجواز الإمكاني والوجود . وقد ثبتَ على أحد طرفي الممكن ولا سبيل إلى انقلابه ، وهو أنّ الحقَّ ما تجلّى لشيء ٍقطّ فاحتجبَ عنهُ ولا كتبَ إيمانًا في قلبٍ فَمحاهُ ، فكلّ من قال استترَ عنّي بعدَ التّجلّي فما تجلّى له قطّ ولكن جلا له فقال هُوَ هُوَ ، ولا ثبات للكون على حالٍ فيتغيّرَ عليه فقال وكذلك كُتْبهُ الآيات والإتيان الآيات البينات إذا كُتبَتْ في القلوب وقامت شواهدها منها لا تَزولُ أبدًا فإذا زيل عن شَخْصٍ مثل هذا فتعلم أنه ما كُتبَ في لَوْحِهِ ولا كان رداءًا لها ، لكن كانت رداءًا عليه ، فأُعطيَ عبارتَها ولسانها لا عينها ووجودها . فمثل هذا العطاء يُسْتَتَرُ ويُزالُ ، ولذلك قال تعالى : "وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ" ، أي كما ينسلخ الرجُلُ من ثوبِهِ والحيَّةُ عن جلدها ، فكانت رداءًا عليه ليس عنده سوى النُّطق ، فإذا نطق ظهر مُكَوَّنُ الإسم وآثرهُ بالخاصيّة ، ولا يشترَطُ بالخواصِّ المفردَةِ تطهيرٌ ولا تقديسٌ ولا حضورٌ ولا جمعيّة إلا بمجرّدِ ما يكون النطقُ بتلك الحروف المعيّنة ، ظهرالأثر ولو كان القائل غافلًا عن نطقه كما قرأ بعضهم آية فرأى عندها أثراً فعجِبَ ولم يدري ما الحكم ، فكرّر الآية فرأى الانفعال فعرف أنَّ الآية صادفت عند التِّلاوةِ محلّها التي تفعل فيه بالخاصيّة فاتخدها إثماً فكان يفعل به ذلك الأثر متى جاء ، فمِثلُ هذا لا يغترُّ به المحقِّق ، قيل لأبي يزيد ما إسم الله الأعظم ؟ فقال : اصدُق وخد أي اسم شئتَ . فأحالهُ على التحقّق لا على النُّطق والتلفّظ . قال تعالى :"أُولَٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ".