آخر الأخبار

جاري التحميل ...

الفتوحات القدسية في شرح قصيدة في حال السلوك عند الصوفية - 2


والعبدُ هذا هو الحُرُّ الذي حصلَتْ... لهُ الخلافَةُ جَلَّ اللهُ مُعطيهِ


   لو كنت أيها المريد تدري وجود الشيخ وهو المراد بالعبد لكنت تشاهد فيه الكمال ، كما أنك تُنزّهه عن النقصان ، لكنك محجوب بحجاب نفسك ومقهور بحيطة عرشها على جثمانيتك فلم تُدرك سرّ حقيقته الأصلية لانسدال حجاب البشرية "سبحان من ستر سرّ الخصوصية بظهور وصف البشرية وظهر بعظمة الربوبية في إظهار العبودية" ، فلا يطلع على حقيقته إلا محبوب الحضرة الإلهية ، فالذي أراد الحق قربه قاده إلى وليٍّ من أوليائه وَصفيٍّ من أصفيائِه وكشف له عن سرِّ خصوصيته بعد أن طوى عنه شهود بشريته فيلقي إليه زمام نفسه ويصير على جهادها في الله حقَّ جهاده حتى تَهُبُّ عليه نسماتُ قربهِ وأُنسهِ .


   وفي بعض الإشارات عنه سبحانه : "أوليائي تحت فنائي، لا يعرفهم أحدٌ غيري". وهذا من غيرة الحق على أهل حضرته من أن يُطهرهم إلى من لا يعرفهم ، فلم يجعل لأحدٍ دليلاً عليهم إلاَّ من حيث الدليل عليه ، لأنه يلبسهم لباس التلبيس بين الأنام ويظهرهم بما يُحقِّرهم في أعين العوام .

   قال في لطائف المنن :"فأولياء الله أهل كهف الإيواء فقلّ من يعرفهم" .
وقال: "وقد سمعته" يعني شيخه أبا العباس رضي الله عنه يقول: "معرفة الولي أصعب من معرفة الله ، فإن الله معروف بكماله وجماله ، ومتى تعرف مخلوقاً مثلك يأكل كما تأكل ويشرب كما تشرب" ، ثم قال فيه: "وإذا أراد الله أن يعرّفك بولي من أوليائه طوى عنك شهود بشريته وأشهدك وجود خصوصيته". وقال أبو يزيد رضي الله عنه: أولياء الله تعالى عرائس ، ولا يرى العرائس إلا من كان مَحرماً لهم ، وأما غيرهم فلا ، وهم مخذورون عنده في جمال الأنس لا يراهم أحد في الدنيا ولا في الآخرة.

   وفي بعض الإشارات : إنما سمَّيتُ الوليّ ولياًّ لأنه يليني دون ما سوَاي" .

   وقال سهل بن عبد الله رضي الله عنه وقد سأله بعض تلامذته كيف يعرِفُ أولياء الله فقال : ( إن الله تعالى لا يعرفهم إلا لأشكالهم أو من أراد أن ينفعه بهم ، و لو أظهرهم حتى يعرفهم الناس لكانوا حُجَّة عليهم ، ومن خالفهم بعد علمه بهم كفر ، و لكنّ الله تعالى جعل اختيارَه تغطية أمورهم رحمة منه بخلقه ورأفةً ، ولكن الله أخبر بكرامتهم فقال عزَّ وجلّ :"الله وليُّ الذينَ آمَنُوا"[البقرة : 257] فأفردهم به) . كلام سهل وهو صريح في أمرين خفائه ، أي الولي ، وسببه . وقد علل ابن عبّاد" خفائه بمثل ذلك ، وهذا كله بحسب ما تدركه العقول.

   وأما من حيث التحقيق فاعلم يا أخي أن سبب ظهور الولي وخفائه هو أن من أدركته حقيقته أي وجودُه أي ذات الباري سبحانه وتعالى المتعينة بالوجود الإلهي القائم هو، أي صاحب الحقيقة ، به وهي حظه منه سبحانه وتعالى وحصّتُه من ذاته ونسبتُه منها قبل أن يُدركها ، أي قبل أن يرى نفسه ويعرفها فيقطع أوصافها ويعبر مراتبَ وُجودها حسّاً ومثالاً وروحاً ومعنى وأدركَتْ حقيقتُهُ منه غايتَها ، فإنّ الحُكم يكون لها وإدراكُ غايتها منه باستيلائها عليه واستهلاكه فيها بحيث لم تبق فيه بقية فتكون لها السَّلطنة والقوة ويظهر عليه حُكمُها وهو الخفاء وعدم الظهور ، فلا تظهر له عين في الحسّ ولا يؤمَر بالخروج للخلق غالباً من هذا الاعتبار ويكون الغالب عليه الخفاء وعدم التصدر للمشيخة وتربية الخلق عامة ونصب الزوايا وإطعامِ الطعام فيها للوفود والتهيؤ للواردين عليه ، والاشتغال بالوساطة بين العبد وربه وقضاء حوائج الناس فيما بينهم وأخد حقهم من ذي سلطان ، لا يطيقون التوصّل إليه والشفاعة له في ذلك وغير ذلك من أحكام الظاهر .

   وأما من أدرك حقيقته أي حصّته من ذات الباري سبحانه المتعينة بوجوده الإلهي كما ذُكر بأن عرف نفسه أوّلاً وقطع مسافتها بالسير في عوالمها حتى حصل الغاية منها ، التي هي قطع المراتب الوجودية ، وحصّل على الحقيقة المذكورة بعد مروره على كل مرتبةٍ وعالَمٍ ، فإن الحكم يكون له لاستيلائه عليها بإدراكه غايته منها ، فيكون له الظهور ويُؤمَر بالخروج للخلق وغير ذالك مما ذُكر ، ويكون أمره بذلك على سبيل الوجوب ، لا يمكنه أن يتخلّف عنه ، فإذا التقيا الوسط بأن أدرك غايته منها وقت إدراكها غايتها منه فحصل الاستيلاء منها معاً فكلٌّ استولى على الآخر من جهة ، أي أدركته قبل أن يقطع جميع مراتب وجوده وبعد أن حصل له السير في جملة منها ، فإن صاحب هذا يُخيّرُ بين الخفاء والظهور وهذا ما تقتضيه الصورة الإلهية المحْذُوَّةُ عليها الصورة الآدمية ، وقد يتخلّف ذلك ويعكَس ، فإن علم الحق سبحانه وتعالى مطلق لا يتقيّد ، وانظر قوله صلى الله عليه وسلم لمّا سئل من أين يكون الشبه إذا غلب ماء المرأة إلخ . فافهم .

   فإذا تقرّر في عقلك ما قرّرناه وشرح الله صدرك لفهم ما أبديناه تحقّق عندك ذوقاً ونظراً أنّ الولي لا يحجبه شيء من الجدرات والأستار وغير ذالك ، وهو ظاهر من طريق النظر ومن طريق الكشف ، وذلك لأنه قد غلب نوره وروحه على نفسه وظلمته ، إذ النفس ظلّ الروح والظل متحيّز بصاحبه الذي قام به كظل القامة في الشمس ، فإنّه متحيّز بها في كون امتداده له جهاتٌ محدودةٌ بخلاف الشمس الظاهر بها الظلّ القائم بقامته، فإنها غير متحيّزة بل منتشرة في جميع أقطار الأفق، فكذلك الروح الذي هو النور لا يحيّزه شيء بل به يحصل التحيز لعدم تساوي الظلمة معه في المرتبة بل لا مرتبة لها معه وإنما هي خيال وظل له ، فإذا ذهب ظل النفس بغلبة نور الروح فإن صاحبه يخرق بصرُه الجدرات والأستار ويدخل ويخرج منها من غير أبواب ولو أدير عليه جدارٌ وحيط عليه به وضيّق عليه فيه وأُزلف فيه فإنه لا يضره ذلك ويَخرقه بنوره. ومن هذا المعنى أيضاً العياء الحاصل بالمشي على الأرجل لا سيما عند طول الأسفار فإن ذلك من ظل النفس وظلمتها المتحيّزة في هيكل الجسم ، ولو غلب نور الروح وشعر به صاحبه فإنه لا يحصل له العياء أبداً ولو مشى على رجليه سنين ، ومن هنا ما يقال من طي الأرض ، فإن الشمس إذا انتشرت على الأفق فإنها تطوي الأرض أي تغمّها ، فصاحب هذا الحال لا يحصل له العياء وإذا لم يحصل له فقد طويت له الأرض وقد يطويها إن أراد ، فيسير في الزمن القصير ما يسير غيره في الزمن الطويل إذا أنزل همّته على ذلك ، فافهم.

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية