(لا تَتْرُكِ الذِّكْرَ لِعَدَمِ حُضورِكَ مَعَ اللهِ فيهِ ، لِأَنَّ غَفْلَتَكَ عَنْ وُجودِ ذِكْرهِ أَشَدُّ مِنْ غَفْلتِكَ في وُجودِ ذِكْرِهِ. فَعَسى أَنْ يَرْفَعَكَ مِنْ ذِكْرٍ مَعَ وُجودِ غَفْلةٍ إلى ذِكْرٍ مَعَ وُجودِ يَقَظَةٍ، وَمِنْ ذِكِرٍ مَعَ وُجودِ يَقَظَةٍ إلى ذِكِرٍ مَعَ وُجودِ حُضورٍ، وَمِنْ ذِكِرٍ مَعَ وُجودِ حُضورٍ إلى ذِكِرٍ مَعَ وُجودِ غَيْبَةٍ عَمّا سِوَى المَذْكورِ، {وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ}).
قال ابن عباد : الذكر أقرب الطريق الى الله تعالى ، و هو علم على وجود ولايته كما قيل : "الذكر منشور الولاية" فمن وفق للذكر فقد أعطى المنشور ، و من سلب الذكر فقد عزل ، قال الشاعر:
والذكر أعظم باب أنت داخله
لله فاجعل له الأنفاس حراسا
و قال الامام أبو القاسم القشيرى رضى الله عنه :"الذكر عنوان الولاية ، و منار الوصلة ، و تحقيق الإرادة ، و علامة صحة البداية ، و دلالة صفاء النهاية" فليس وراء الذكر شىء ، وجميع الخصال المحمودة راجعة الى الذكر، و منشؤها عن الذكر ، وفضائل الذكر أكثر من ان تحصى ، ولو لم يرد فيه الا قول الله تعالى فى كتابه العزيز(فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) (البقرة 152) و قوله عز وجل فيما يرويه رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي ؛ فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي ، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا ، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً) لكان في ذلك اكتفاء وغُنيَة.
قالوا : ومن خصائصه أنه غير مؤقت بوقت ، فما من وقت الا و العبد مطلوب به ، إما وجوبا و إما ندبا بخلاف غيره من الطاعات . قال ابن عباس رضي الله عنهما : لم يفرض الله تعالى فريضة إلا جعل لها حدا معلوما ، ثم عذر أهلها في حال العذر ، أما الذكر فإنه لم يجعل له حدا ينتهى إليه ، ولم يعذر أحدا في تركه إلا مغلوبا على عقله وأمرهم به في كل الأحوال ، فقال : " فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم " ( النساء - 103 ) . وقال : ( اذكروا الله ذكرا كثيرا ) أي : بالليل والنهار ، في البر والبحر وفي الصحة والسقم ، وفي السر والعلانية ، وعلى كل حال .
وقال مجاهد رضي الله تعالى عنه :"الذكر الكثير ألاّ ينساه أبدا ، وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أكثروا ذكر الله ، حتى يقولوا مجنون".
فينبغي للعبد أن يستكثر منه في كل حالاته ويستغرق فيه جميع أوقاته ولا يغفل عنه ، وليس له أن يتركه لوجود غفلته فيه وعدم حضور قلبه فإن تركه وغفلته عنه أشد من غفلته فيه فعليه أن يذكر الله تعالى بلسانه وإن كان غافلا فيه فلعل ذكره مع وجود الغفلة يرفعه إلى الذكر مع وجود اليقظة ، وهذا نعت العقلاء .
ولعل ذكره مع وجود اليقظة يرفعه إلى الذكر مع وجود الحضور ، وهذه صفة العلماء.
ولعل ذكره مع وجود الحضور يرفعه إلى الذكر مع وجود الغيبة عما سوى المذكور وهي مرتبة العارفين المحققين من الأولياء قال الله تعالى: ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ) [الكهف: 24] أي : إذا نسيت ما دون الله تعالى فعند ذلك تكون ذاكراً لله ، وفي هذا المقام ينقطع ذكراللسان ويكون العبد محوا في وجود العيان .
قال الواسطى مشيرا الى هذا المقام :الذَّاكِرُونَ فِي ذِكْرِهِ أَكْثَرُ غَفْلَةً مِنَ النَّاسِينَ لِذِكْرِهِ ، لأَنَّ ذِكْرَهُ سِوَاهُ . و قال ابو العباس بن البنا - فى كتاب ذكره على مقدمة كتاب أبى العز تقى الدين بن المظفر الشافعى : الاسرار العقلية فى الكلمات النبوية " و من أحسن الذكر ما هاج عن خاطر وارد من المذكور ، جل ذكره " و هذا هو الذكر الخفي عند المتصوفة على الاستمرار والتمكن في الأسرار .
وأما قولهم : حتى يتمكن الذاكر الى حالة يستغرق بها عن الذكر فليس ذلك تمكن حلول و لا اتحاد بل حكمة ، وقدرة من عزيز حكيم ، وبيان ذلك : أن يكون القلب عند الذكر فى الذكر فارغا من الكل ، فلا يبقى فيه غير الله جل ذكره ، فيصير القلب بيت الحق ، ويمتلئ منة ، فيخرج الذكر من غير قصد و لا تدبير، و حينئذ يكون الحق المبين لسانه الذى ينطق به ، فإن بطش هذا الذاكر كان يده التي يبطش بها وإن سمع كان سمعه الذي يسمع به ، قد استولى المذكور العلي على الفؤاد فامتلكه ، وعلى الجوارح فصرفها فيما يرضيه ، وعلى الصفات من هذا العبد فقلبها كيف شاء في في مرضاته ، فلذلك يخرج الذكر من غير تكلف ، وتنبعث الأعمال بالطاعات : نشاطا ولذة من غير كلال . "ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ" "إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ" وقد وصف الله قلب أم موسي عليه السلام بمعني ذالك في قوله الحق :"وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً" أي فارغا من كل شيء إلا من ذكر موسى ، فكادت أن تبدي به من غير قصد لها منها لذكره ولا تدبير، بل كان تركها للتصريح به تعليلاً وصبرا لما ربط الله جل ذكره على قلبها لتكون من المؤمنين بما أوحى إليها من قبل في شأن موسى ، وبأنه من المرسلين.
وبذلك يندفع الإشكال الذي ذكره أبو العز ، ووصفه بالعظم ، وهو اجتماع الضدين : وهما الذكر والغفلة عن الذكر .
وهذه المعالم والمراقي لا يعرف حقيقتها إلا السالكون وجداناً ، والعلماء إيماناً وتصديقاً ، فإياك التكذيب بآيات الله ، فتكون من الصم البكم في الظلمات .
ولما كان المذكور لا يجوز عليه وصف الفقد والعدم ، ولا يمنعه حجاب ، ولا يحويه مكان ولايشتمل عليه زمان ، ولا يجوز عليه الغيبة بوجه ، ولا يتصف بحوادث المحدثين ، ولا يجري عليه صفات المخلوقين فهو حاضر عينا ومعنى ، وشاهد سراً وجهرا ونجوى إذ هو القريب من كل شيء ، وأقرب إلى الذاكر له من نفسه ، من حيث الإيجاد له ، والعلم به ، والمشيئة فيه ، والتدبير له ، والقيام عليه .
خلق الخليقة فلا تلحقه أوصافها ، وأوجد الأعداد فلا تحصره معانيها سبحانه هو العلي الكبير ، انتهى كلام الشيخ أبي العباس رحمه الله في معنى المقام الثالث من مقامات الذكر ، وهو في غاية الحسن والتحقيق مشيرا إلى توحيد الخواص من أهل هذا الطريق فلا ينبغي أن يستبعد العبد الوصول إلى هذا لمقام الكريم ، فليس ذلك بعزيز على الفتاح العليم ، فعلى العبد القيام بحق الأسباب ، ومن الله رفع الحجاب .
غيث المواهب العلية
في شرح الحكم العطائية
ما اجملها وافيدها
ردحذف