قال رضي الله عنه :
مُقَدِّمَةٌ لِكِتَابِ الإِعْتِقَادْ مُعِينَةٌ لِقَارِئِهَا عَلَى الْمُرَادْ
ذكر هنا أن مقدمة طريق القوم التي يتوصل بها المريد لحقائق العلوم ، ويدرك بها معنى الكتاب ، ويصير يفرق بها بين الخطأ والصواب هي الاعتقاد والجزم القاطع في ابتدائه لتصير حق اليقين في انتهائه ، ويكون غير متردد ولا متوهم في طريقه ، وفي توجهه لربه يتمكن بمراده ، لإنّ القوم لا ينفع معهم إلاّ الصدق والاعتقاد ، وإلاّ يطرد المريد ولو مع وجود الاستعداد ، ولهذا قال بعضهم : (طريقتنا مبنيّة على النيّة والتصديق لا على البحث والتدقيق) ، فينبغي للعاقل أن ينظر لنفسه بعين التقصير ، ولا يقيس ما عندهم من الحق على ما عنده من الباطل ، شتان ما بين الثرى والثريا ، فعقل القوم ليس كعقل العموم ، فكيف تقيسه على ما عندك من العلوم ، إذ علمهم لا يتوقف على عادة ولا على رسوم ، بل عقلهم جامع لسائر العلوم.
وحكمنا العقلي قضيّةٌ بلا
وقْف على عادة أو وضع جَلاَ
فذكر أن حكم عقل القوم هو من مُدهشات الأمور التي لا يُقيد بقيد مانع ، ولا يتوقَّف على عادة أو وضْع واضع ، وهذا هو العقل السالم من وجود الآفات ، المشار إليه في الأثر (1) ، بأنه لا يوضع إلا في أحب المخلوقات . وحاصل الأمر أن صاحب هذا العقل خال من التوقفات ، وقد اصطنعه الله لنفسه فلا يرضى منه توجهاً لغيره ، وكل عقل يعقل ما سوى الله ليس بعقل عند أهل الله . ولما خشي الراجز ، رحمه الله ، على قارىء كلامه أن يتوهم أن عقول القوم كبقية عقول الناس نزّهها عن هذه القيود الوضعية والعادية ليسلم الحَدّ لمَحدودِه ويرتفع الالتباس ، وقد شرع في بيان مقتضى هذا العقل ، فقال رضي الله عنه :
أَقْسَامُ مُقْتَضَاهُ بِالْحَصْرِ تُمَازْ
وَهْيَ الْوُجُوبُ الاِسْتِحَالَةُ الْجَوَازْ
اعلم أن أقسام مقتضى حكم العقل المذكور تنحصر في ثلاثة أقسام وهي : الوجوب والاستحالة والجواز لا زائد عليها . وهذا عقل الأكابر من العارفين الراسخين في العلم ، وأما المبتدؤون ، اي المجاذيب حالة السكر ، فعقلهم لا ينحصر إلا في قسمين فقط ، ومنهم من لايعقل سوى الوجوب . فالأول يقول : الله واجب الوجود وما سواه مفقود ، والثاني : لا يقول شيئاً لكونه مغموراً ، وأما الراسخون الكمل الذين يعطون كل ذي حق حقه فيكون باطنهم لأهل السكر موافقاً وظاهرهم لأهل الصحو مرافقاً ، فمن أجل هذا استقام سيرهم ، وعظم عند أبناء جنسهم وعند الله قدرهم . ثم أخد يبين كلا من الأقسام الثلاثة بما يناسب المقام ، فقال رضي الله عنه :
فَوَاجِبٌ لَا يَقْبَلُ النّفْيَ بِحَالْ
وَمَا أَبَى الثبُوتَ عَقْلاً المُحَالْ
وَجَائزاً مَا قَبِلَ الأمْرَيْنِ سِمْ
لِلضَّرُورِيْ ، والنَّظريْ كلٌّ قُسِمْ.
فمثال الواجب الذي لا يقبل النفي بوجه من الوجوه هو ظهور الحق لأوليائه ، وهذا الظهور صار عندهم لا يقبل النفي بحال . قال الإمام الشاذلي رضي الله عنه : " قَوِي علي الشهود مرة ، فسألت الله أن يستره عني . فهتف بي هاتف : لو سألته بما سأله أنبيائه وأصفيائه ومحمد حَبيبُه ما فعلَ،ولكن اسأله أن يقويك عليه . فقواني والحمد لله ".
وقال بعضهم : " لو كُلِّفتُ أن أرى ما سوى الله ، لم أستطع ، لكون البصر لا يتعلق بالمفقود ". هذا مثال الواجب عندهم الذي لا يقبل النفي بحال . وأما المستحيل فهو الذي لا يقبل الثبوت بحال ، لعدم وجوده في الواقع ، إذ لو كان موجوداً لصحَّ إثباته . ومثاله عند القوم كوجود الغير ، فعقل العارفين لا يقبل له إثباتاً لعدم رؤيتهم له ، إذ لو كان موجوداً لوقع البصر عليه ، وكيف يقع على ما ليس بموجود ؟.
** ** **
1 - إشارة إلى الحديث : إنّ أحب المؤمنين إلى الله عز وجل من نصب في طاعة الله عز وجل ونصح لعباده وكمل عقله.