ولما كان للدين في قلوب المؤمنين سلطانٌ عجيبٌ يتنامى في شعور الشاعرين بوجود الله ويزداد ليرتفع إلى أسمى آيات الإيمان ، صار سلطان الإيمان هو الذي يقوى في الضمائر ، ويعلو ويشتد كلما قوت روحه وعلت واشتدت إلى حيث الاتصال بالله من طريق الحب لا من طريق المعرفة النظرية . والطريقان قد يجتمعان ولكنهما لا يستويان لا في الدرجة ولا في النوع ولا في طريق الوصول !؛ لأن طريق المعرفة النظرية برهان عقليّ وكفى ، هو إلى الجفاف والصلابة أقربُ منه إلى شاعرية الوجدان ومُعاناة التجربة الشعورية الفياضة بمعايشة الإيمان ، فمثل هذا "الإيمان" الدافق الفعال في قلوب المؤمنين لا يسعه البرهان العقلي ولا تحتويه مساحة الأدلة النظرية ، ولكن مساحته التي تسعه هي "قلب المؤمن" الذي يرى الأشياء بنور الله ويشعر شعورا قوياًّ أن الله معه في كل حال ، وأن الحب أسمى وأقوى وأشد فاعلية من جميع البراهين النظرية .
وأغلب الظن أن الله تعالى عُرف بالحب لا بالعقل ..! لأن العقل في الغالب معزول عن المعرفة الإلهية : فمع وجوب التفرقة الفارقة هنا بين المنطق والجدل من حيث إن :"المنطق بحث عن الحقيقة من طريق النظر المستقيم والتمييز الصحيح . أما الجدل فبحثٌ عن الغلبة والإلزام بالحجة قد يرمي إلى الكسب والدفاع عن مصلحة مطلوبة ، وقد يتحرى مجرد المسابقة على الخصم وإفحامه في مجال المناقضة واللجاج .
أقول ؛ مع وجوب هذه التفرقة الفارقة بين ما هو منطق وما هو جدل ، فالجدل أظهر ما يكون تعبيراً عن نزعة العقل في آفات ثلاث ؛ أولها : إغراء الناس بالمماحكة بالقشور دون اللباب من حقائق الأمور . وثانيها : إثارة البغضاء والشحناء على غير طائل ولعاً بالغلبة والاستعلاء بدعوى العلم والصواب . وثالثها : إشاعة الخلاف بين الآراء جماعة بعد جماعة إلى غيرنهاية يقف عندها ذلك الخلاف .فأنت تبحث بالعقل المشكلات اليومية والمبادئ المفروضة ، وبالعقل تستن الحجج المنطقية لتجادل بها من تود مجادلته لتقنعه بشيء مما يفرضه هواك ، ثم تتلذذ بانتصارك عليه وإفحامك له . وتنتشي فرحاً كلما فزت بالعقل على خصمك فتثني على العقل ؛ لا لأنه عقلك عن صفات مرذولة كنت تقع فيها - وأنت تدري أو لا تدري ! - ولكن لأنه أعانك على نصرة هواك وأثار فيك حب الغلبة والاستعلاء ؛ فما دخل معرفة الله ها هنا بالعقل ؟! وأي عقل تلك أوصافه له تحصيلٌ بمعرفة الله ؟!.
يُعرفُ الله - تعالى الله عن المعرفة ! بالله لا بالعقل . أما العقل فهو من العجز بحيث لا يدلُّ إلّا على عاجز مثله ، العقل عاجزعن أن يعرف نفسه ؛ وإلا فما وقع الخلاف البادي بين المتحاورين والمتجادلين من أجل نصرة هواهم على سواهم ، بل لو كانت هناك معرفة حقيقية يتوصّل إليها العقل في ذاته ما صحّ أن يكون ها هنا خلافٌ ولا نزاع ولا شقاق يؤدي بالضرورة إلى ذهاب الريح ! . أفئن دلَّ ذلك على شيء ، فمدلوله الأقوى أن "الوحدة العقلية" مفقودة أو تكاد بين الناس ، فكيف يتأتّى لي الزعم بعد ذلك أن تكون هي هي المقياس الصالح لمعرفة الله ؟!
إنما المقياس الصالح لمعرفة الله هو"الحب" ؛ فالله بالحب عرفوه لا بالعقل ! .ولو لم تكن هناك موهبة إلهية تُمكن الموهوبين بقدرة المعرفة بالله عن طريق المحبة ما جاز أن يكون الله معروفا بغير هاته الوصلة الروحية أو تلك الصلة الكمالية مِنةٌ في عباده المقربين .وليس من شك في أن هذا الطريق الأخير "طريق الحب" لهو نفسه الطريق الذي يُعمّق من سلطان الدين في القلوب ، ويُعلي من شأنها - بتفعيل الدين وتثويره - ليهبها (أي القلوب) مثل هذه الدرجة الواعية : أعني تلك الوصلة الروحية التي تكشف عن الحقيقة قوة الدين وأغواره الدفينة في نفوس المِؤمنين .. "والمرء مع من أحب" .
ليس هناك شعور قط أقوى ولا أنبل من ذلك الشعور الذي تكشف التجربة الروحية عنه الغطاء . ففي تلك التجربة نفسها تشعر الروح بوعيها المتسامي وذاتيتها المتعالية وحيويتها الباطنة والحاضرة دوما في رحاب الله ؛ تماماً كما تشعر بتحررها عن العلائق والأوهام والشواغل ومعاقرة الآفات . ومن هاهنا تكون "تربية الشعور الديني قائمة على لحب" وكامنة في هذا التحرر : تحرر الروح من سطوات الأغيار . لكن هذا التحرر ليس مجرد كلمة فارغة من الدلالة ليست بذات معنى يمكن أن تقال ، بل طريق شاق طويل كله مكابدة وعناء ، في نهايته يجيء مثل هذا التحرر ، لكنما البداية إنما هي فضائل كريمة تُذَكي النفس وتترقى بها عروجاٌ في طريق الكمال :
البدايةُ جهادٌ .. والنهايةُ اتصالٌ .
مقدمة كتاب : السر في أنفاس الصوفية
د.مجدي محمد إبراهيم