ليس هناك شعور قط أقوى ولا أنبل من ذلك الشعور الذي تكشف التجربة الروحية عنه الغطاء . ففي تلك التجربة نفسها تشعر الروح بوعيها المتسامي وذاتيتها المتعالية وحيويتها الباطنة والحاضرة دوما في رحاب الله ؛ تماماً كما تشعر بتحررها عن العلائق والأوهام والشواغل ومعاقرة الآفات . ومن هاهنا تكون "تربية الشعور الديني قائمة على "الحب" وكامنة في هذا التحرر : تحرر الروح من سطوات الأغيار . لكن هذا التحرر ليس مجرد كلمة فارغة من الدلالة ليست بذات معنى يمكن أن تقال ، بل طريق شاق طويل كله مكابدة وعناء ، في نهايته يجيء مثل هذا التحرر ، لكنما البداية إنما هي فضائل كريمة تُذَكي النفس وتترقى بها عروجاٌ في طريق الكمال :
البدايةُ جهادٌ .. والنهايةُ اتصالٌ .
أولى هذه الفضائل وأوْلاها فضيلة الجهاد الذي تحقق في هداية السبيل ؛ والجهادُ عملٌ دائبٌ وعبادةٌ وتكليفٌ ورباط.. الجهادُ هو الذي يخلق للإنسان قوة تمهد لسلطان الإيمان أن يستقر في قلب المجاهد ، فتمنع عنه خواطر التعطيل والانحراف ليتفجر من المجاهدة نوريهدي به الله إلى سبيله .. لاحظ قوله تعالى :"وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا" (العنكبوت) : آية : 96) ، أي الذين يعملون (والعمل جهاد) بما يعملون ، يوفقهم الله ويهديهم إلى ما لا يعلمون حتى يكونوا علماء حُلَماء ؛ وتلك هي "علوم المعارف" ، مواريث أعمال القلوب . قال بعض السلف : نزلت هذه الآية في المتعبدين المنقطعين إلى الله سبحانه وتعالى ، المستوحشين من الناس ، فيسوق الله تعالى إليهم من ذوات أنفسهم من يُعَلِّمُهُم أو يلْهِمُهُم التوفيق والعصمة ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : ( وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا) ؛ قيل مخرجاً من كل أمر ضاقَ على الناس ، ويرزقه من حيث لا يحتسب ، أي : يعلمه علماً بغير تعليم ، ويفطنه فطنة بغير تجربة ، أي : بالشاهد الصحيح والحق الصريح .
وكلما تقدَّم الجهادُ مثل هذا الحب العلوي الذي يستشعره قلب العبد المؤمن مأخوداً من عين الاتباع لسيد الخلق صلوات ربي وسلامه عليه في قوله تعالى :(قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) (آل عمران : آية 31) ؛ صار بالتحقيق فضيلة ماضية لا صعوبة فيها ولا مشقة ، وصارت التربية الروحية على هذا النهج النبوي المُكَرّم هي النموذج الذي ينتهجه الصالحوم العابدون العارفون بالله من طريق المحبة .
وأوّل درجات التربية للشعور الديني تكمن في سد ذريعة العناء تُلقيها الخواطر : بحذف الخواطر الرديئة ، والنهوض بالجملة للتحقق من خواطر اليقين الإيماني مع العصمة الدائمة بالرقابة الإلهية على العمل ، وعلى الفعل ، وعلى التصريف فيما يفعل العبد وفيما يقول ، وهو مما لا يتمُّ بالمطلق بغير جهاد ومكابدة . وفي الأثر أن كل قلب اجتمع فيه ثلاثة معان لم تفارقه خواطر اليقين ؛ ولكن يضعف الخاطر ويخفى لضعف المعاني ودقتها ، ويقوى اليقين ويظهر ؛ لأن هذه الثلاثة جميعاً يقوم فيه سلطان الإيمان ناهضاً غير خَدلان .
تتمثل تلك المعاني الثلاثة في "الإيمان" و"العلم" و "العقل" . فإذا لم يكن القلب يخلو منها صار مخصوصاٌ بصفة أهل الإيقان أولئك :(الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) ؛ هؤلاء هم المخصوصون بتجليات السكينة القلبية التي أنزلها الله - تباركت عطاياه - في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم .
على أن العقل هنا في هذه الثلاثة ليس هو العقل المنطقي النظري الاستدلالي المحدود ، والمقرون في الوقت نفسه بآفة الجدل والخصومة ؛ بل هو عقل القلب ، إذْ العقل المنطقي النظري الجدلي قد يكون فيه هلاك صاحبه مع عدم الاحتراز أو قتله . في حين "عقل القلب" وحده هو الذي يخلّص الإنسان من الجهل ومن ومن العمى :"عقل القلب" ؛ وليس "عقل العقل" المجرَّد من ضياء الموافقة ونور البصيرة .
والقلب العاقل وحده هو الذي يسمع خطاب الحق فينظر بنظر الله . وعقل القلب أو القلب أو القلب العاقل هما في الحقيقة عين البصيرة الإيمانية التي ترى بنور الله ما ما لا يراه المبصرون والمحجوبون في نفس الحال : المبصرون بحاسَّة البصر قياساً إلى افتقاده البصيرة حجاباً ولا عمَىَ : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)
أي نعم... ! إنما القلب موطن الإيمان لا ريب خزانة من خزائن الملكوت ، فقد وجب أن يكون محفوظاً على الدوام بنور الإيمان إذا كان الدين الواصب شرعته ومنهاجه وفيض أسراره ومنازل أنواره .. كتب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أمراء الأجناد ينصحهم ويعظهم ثم يوصيهم : "احفظوا ما تسمعون من المتعظين ، فإنهم يتجلى لهم أمور صادقة" ،وإنما كانت هذه المتجليات هي من فيض أسرار الإيمان.
وكان أبو الدرداء يقول :"المؤمن ينظر إلى الغيب من ستر رقيق ؛ والله إنه لَلحق يقذفه الله تعالى في قلوبهم ويجريه على ألسنتهم" . وقال بعض العلماء :"ظنُّ المؤمن كهانة" ؛ أي كأنه سحر من نفاذه وصحة وقوعه . وقال أحدهم :"يد الله تعالى على أفواه الحكماء لا ينطقون إلا بما هيأ الله عزوجلّ لهم من الحق" . وأثر عن بعضهم أنه قال :"لو شئت لقلت : إن الله يُطلع الخاشعين على بعض سره" .
فمن حق مَنْ شاء حين يشاء أن يستغرب مثل هذه الأقوال ، وأن يَسْتهجن قائليها ، ولكنه لن يكون قد ترَبَّى سَلَفاً على فهم الشعور الديني العميق ، ولا عَرَفَ من الطريق مبناه ولا أسسه ولا مغزاه ، فما هو في الأصل (الطريق) إلا نور الحكمة يترائى لهم بمقدار ما ينكشف الحق لمثل هذه القلوب المؤمنة العاقلة عن الله حكمته ، كما جاء في تفسير قوله تعالى :( يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ) . قيل : "الفهم" في كتاب الله .
فلئن كان من حق مَنْ شاءَ أن يستغرب هذه الأقوال أو يستهجن قائليها ، فليس من حقّه أن يردَّها إلى مصدر غير مصدرها الديني فيما يكشفه المضمون القرآني ؛ فمن غريب الملاحظات أننا نجد من بيننا من يروح فيقول أن المعارف الصوفية مستقاة من مصدر غير إسلامي ، غنوصي مثلاً أوهرْمَسي يوناني أو فارسي ، هندي أو مسيحي أو بوذي أو صابئي ، أو ما شابه ذلك من مصادر خارجة عن الإسلام أو خارجة عن مضمون القرآن . ثم يحلو له من ثمَّ نسبة الشخصيات الصوفية الكبيرة التي اعتمدت "الفهم" إلى أصول غير أصولها أو إلى مصادر غير مصادرها التي انطلقت منها بعد أن أوقفت توجهاتها عليها بالكلية . إنما الحكمة التي يأتيها الله من يشاء لهي "الفهم" الذي يلقيه لعبده في كتابه من طريق الذوق والفتح والوَهْب وخصوصية الإدراك ، أو من طريق "النور" الممنوح لعبيد الإختصاص . وقد قيل في قوله تعالى :(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا) ؛ إنه "النور" تفرقون به بين الشبهات واليقين تفرقون به المشكلات ؛ ومن أصدق من الله قيلاً ( وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ) .
وفي ملكوت القرآن ذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ، ومن أجل تربية وجدانية ناهضة ونابضة بالحياة الروحية ، قال أهل البصائر الذين حفظوا قلوبهم بنور الإيمان الثابت الدائم الوَاصب المترقي بالزيادة إلى عين اليقين ، قالوا : إن أول ما يَرِد على القلب الخواطر ، وهو حديث النفس ، ثم الميل ، وهو ميل الطبع إلى العمل ، ثم الاقتقاد ؛ ثم حكم القلب بأن ينبغي على الفعل أن يفعل ، ثم العزم ، وهو عزم الإنسان أخيراً على الفعل في تصميم ، أي انتقال الإرادة الى مراقبة الإدراك ، إلى مجال التنفيد الفعلي .
فهذه كما ترى سلسلة أخلاقية تربوية تتأسس على مراقبة الإدراك ، تبدأ بالخاطر الوارد على القلب ، وتنتهي بالفعل (أي العمل) وترتد في البداية والنهاية إلى فضيلة الجهاد وإلى شرف المجاهدة ، ولكن الذي يغدي في المجاهد عروق المجاهدة الضاربة بدماء الحياة الروحية هو "الحب" ، فلولا الحب ما كان الجهاد فضيلة المجاهدين .