كتاب في التصوف لسيد الطائفة أبي القاسم الجنيد البغدادي وهو عبارة عن إشارات موجزة ومقتضبة للصوفية الأوائل وتحديداً صوفية القرن الثالث الهجري وتناول شخصيات صوفية كبيرة وتناول موضوع الأنفاس عند الصوفية وهي صورة وعي العارف أو صورة لمشهده الكشفي.
المؤلفون: الجنيد البغدادي، إبراهيم، مجدي محمد
** ** **
(في الطريق)
في صَلاةِ الحُبِّ ؛ تَكْفي رَكْعَتان ،
ولكنَّ الوُضوءَ الذي يَجْعَلَهُما مقبولَتَيْن ،
يَنْبَغي أنْ تَكُونَ بالدَّمِ .
هذه عبارة قلبت تفكير أحد المستشرقين رأساً على عقب ، وحوّلت حياته كلها من النقيض إلى النقيض ، وأوقفت نظره على مباشرة أذواق صاحبها يوم أن عرف لها معنى ومدلولاً ، فاتحد بقائلها اتحاد عاشق ، ينقب في آثاره ويخرّج دلالات إشاراته ، ويجمع عباراته من أكداس الكتب والمخطوطات القديمة ؛ ليفسرها تفسيراً ذوقياً يتمشى مع قانون الذوق ومعدن العرفان . العبارة للحسين بن منصور الحلاج ، المتصوف الشهيد .
أما المستشرق الذي حوّلَت عبارة الحلاج حياته كلها فهو المستشرق "لويس ماسينيون" (1883-1962) الذي انغرم بالحلاج غرام الوالهين ، فكتب عنه كتابة روح ، وبمداد جد وكريم حتى استوفاه في دراساته بما لا مزيد عليه.
وَجد ماسينيون في عبارة الحلاج هذه مُفَارَقة ، غيرَ أنّها مفارَقة بَدَت في نظره ظاهرية ، فالدم العادي نجسٌ عند المسلمين ، ولكن ما هكذا يكون دم الشهيد . الشهيد عند المسلمين يُدفن كما هو دون غسل ، الشهيد لا يغسل فدمه طاهر لأنه دم الروح .. إن شهادة الدم لدى المتصوفة ولدى أهل السنة لهي شهادة الحياة ، ليست أي حياة ولا كل حياة ولكنها حياة الروح . وفي حياة الروح يجود الرجال بدمائهم قرباناً إلى تلك "الأقاليم العلوية" ؛ من فَرْط ما اشتعل في قلوبهم من محبة خالصة فلا يبالون إنْ لاقوا فيها حتفهم ومثواهم الأخير . فمن كان على شاكلتهم أحبَّهُم ، وأحبَّ فيهم هذا التبتُّل العميق واكتفى بالسعادة التي ينتظرها على موعد من محبتهم ، فإن محبتهم بالحقيقة لهي السعادة عند من يُحبُّهُم ، ويجد في هذا الحب وصلة وجدِ وقربة جذب إلى الملأ الأعلى ، إلى الله تعالى ، يهون معها أعز ما يملكه الإنسان : الروح.
فمن أوْصَلَكَ إلى الله تعيَّن عليك محبته ..وتعيّن عليك محبة طريقه ، تمضي فيه كما يمضي ، وتسير معه على المحبة في شوق غير خدلان ، تسير ..! بل تطير على بُراقها هيماناً في تبتل المنقطعين ، فموجب المحبة شوق ، ووَلَهٌ ، وهيام . مُوجبها معية دائمة لا تفارق طريقها إلا وتعود إليه مشتاقاً لتبقى فيه بقاء مَنْ أَحبَّ البقاء واشتاق إليه.
تكشف عبارة الحلاج عن أسس الطريق الصوفي ، وتربية الشعور الديني العميق على منازل المحبة ، ومواجهة الطريق بما تَقَرَّرَ في أركانه لا بما تقرر في مفهوم الأجانب عنه .
فالذي يقرأ كتب الصوفية بعقل وتنكر لا يفهمها مطلقاً على حقيقتها ، وإنْ فهمها فهو فهمٌ من حيث الظاهر البرَّانيّ لا من حيث العمق الجوَّانيّ : أعني الظاهر الذي يُعْطيه العقل لا الباطن الذي يعطيه الذوق . والعقل حجاب ، والمحجوب محروم ، والمحروم لا يجدي نفعاً لنفسه فما بالك بغيره أو لغيره ؟! . العقل شكٌّ ، وادعاءٌ ، ومعرفةٌ نظرية .
العقل عكّاز العاطلين..! هو لاشيء بالنسبة إلى الطريق ؛ لأن الطريق لسانُ صدْق . والعقل كاذبٌ ، مفتعلُ ، صاحب حيلة ، أنانيٌّ ؛ يرى نفسه ، وتحجبه نفسه عن مواجهة الحق الذي ينشده الصوفيّة من طريق الحب والوجد ومواريث الأسرار .
جوهر التصوف قائم على الحب . والحب عطاء وبذل وتضحية ، وهي امور لا تعرفها حسابات العقل . لا عقلانية ولا معقولية في الطريق . ومواجهة الطريق بالعقل تفسده ، ولكن المواجهة تكون بالتسليم لا بالإنكار ، بالإقرار لا بالرفض ، بالإذعان لا بالتَّأَبِّي ، بالخضوع والانكسار لا بالتكبّر والاعتداد في غير موضع لاعتداد النفس ورؤية الأنَا . وبالحب يتربى الشعور الديني ، ويتنشّأ بالحب لا بالعقل حين يكون الشعور مورداً من موارد العاطفة التي هي أساس الدين لدى المتصوف بصفة خاصة ، فبالشعور يتغذى الوجدان كما تتغذى العاطفة ، ولا معنى للدين بغير العاطفة ؛ إذ كيف يتصل العبد بخالقه وهو مجرّد عن العواطف النبيلة الدافعة إلى الاتصال بالله ؟!
ولما كانت العاطفة خاصَّة قلبية لطيفة في مستودع الأسرار الإلهية ، كان للقلب طاقة نورانية نافذة إلى ملكوت السماوات ، متصلة بالأفق الأعلى ،غائرة بالوجدان إلى أغواره الدفينة لا تتغدى إلا بهذا الرافد الشعوري الذي يتصل بالعاطفة وينفذ إلى أعماق الضمير ، فتتصل العاطفة بالقلب فيتصل القلب بالنور الساري في أجزاء الكون كله : تفاصيله وذرّاته وممكناته .. ولله في خلقه شؤون !
أما المستشرق الذي حوّلَت عبارة الحلاج حياته كلها فهو المستشرق "لويس ماسينيون" (1883-1962) الذي انغرم بالحلاج غرام الوالهين ، فكتب عنه كتابة روح ، وبمداد جد وكريم حتى استوفاه في دراساته بما لا مزيد عليه.
وَجد ماسينيون في عبارة الحلاج هذه مُفَارَقة ، غيرَ أنّها مفارَقة بَدَت في نظره ظاهرية ، فالدم العادي نجسٌ عند المسلمين ، ولكن ما هكذا يكون دم الشهيد . الشهيد عند المسلمين يُدفن كما هو دون غسل ، الشهيد لا يغسل فدمه طاهر لأنه دم الروح .. إن شهادة الدم لدى المتصوفة ولدى أهل السنة لهي شهادة الحياة ، ليست أي حياة ولا كل حياة ولكنها حياة الروح . وفي حياة الروح يجود الرجال بدمائهم قرباناً إلى تلك "الأقاليم العلوية" ؛ من فَرْط ما اشتعل في قلوبهم من محبة خالصة فلا يبالون إنْ لاقوا فيها حتفهم ومثواهم الأخير . فمن كان على شاكلتهم أحبَّهُم ، وأحبَّ فيهم هذا التبتُّل العميق واكتفى بالسعادة التي ينتظرها على موعد من محبتهم ، فإن محبتهم بالحقيقة لهي السعادة عند من يُحبُّهُم ، ويجد في هذا الحب وصلة وجدِ وقربة جذب إلى الملأ الأعلى ، إلى الله تعالى ، يهون معها أعز ما يملكه الإنسان : الروح.
فمن أوْصَلَكَ إلى الله تعيَّن عليك محبته ..وتعيّن عليك محبة طريقه ، تمضي فيه كما يمضي ، وتسير معه على المحبة في شوق غير خدلان ، تسير ..! بل تطير على بُراقها هيماناً في تبتل المنقطعين ، فموجب المحبة شوق ، ووَلَهٌ ، وهيام . مُوجبها معية دائمة لا تفارق طريقها إلا وتعود إليه مشتاقاً لتبقى فيه بقاء مَنْ أَحبَّ البقاء واشتاق إليه.
تكشف عبارة الحلاج عن أسس الطريق الصوفي ، وتربية الشعور الديني العميق على منازل المحبة ، ومواجهة الطريق بما تَقَرَّرَ في أركانه لا بما تقرر في مفهوم الأجانب عنه .
فالذي يقرأ كتب الصوفية بعقل وتنكر لا يفهمها مطلقاً على حقيقتها ، وإنْ فهمها فهو فهمٌ من حيث الظاهر البرَّانيّ لا من حيث العمق الجوَّانيّ : أعني الظاهر الذي يُعْطيه العقل لا الباطن الذي يعطيه الذوق . والعقل حجاب ، والمحجوب محروم ، والمحروم لا يجدي نفعاً لنفسه فما بالك بغيره أو لغيره ؟! . العقل شكٌّ ، وادعاءٌ ، ومعرفةٌ نظرية .
العقل عكّاز العاطلين..! هو لاشيء بالنسبة إلى الطريق ؛ لأن الطريق لسانُ صدْق . والعقل كاذبٌ ، مفتعلُ ، صاحب حيلة ، أنانيٌّ ؛ يرى نفسه ، وتحجبه نفسه عن مواجهة الحق الذي ينشده الصوفيّة من طريق الحب والوجد ومواريث الأسرار .
جوهر التصوف قائم على الحب . والحب عطاء وبذل وتضحية ، وهي امور لا تعرفها حسابات العقل . لا عقلانية ولا معقولية في الطريق . ومواجهة الطريق بالعقل تفسده ، ولكن المواجهة تكون بالتسليم لا بالإنكار ، بالإقرار لا بالرفض ، بالإذعان لا بالتَّأَبِّي ، بالخضوع والانكسار لا بالتكبّر والاعتداد في غير موضع لاعتداد النفس ورؤية الأنَا . وبالحب يتربى الشعور الديني ، ويتنشّأ بالحب لا بالعقل حين يكون الشعور مورداً من موارد العاطفة التي هي أساس الدين لدى المتصوف بصفة خاصة ، فبالشعور يتغذى الوجدان كما تتغذى العاطفة ، ولا معنى للدين بغير العاطفة ؛ إذ كيف يتصل العبد بخالقه وهو مجرّد عن العواطف النبيلة الدافعة إلى الاتصال بالله ؟!
ولما كانت العاطفة خاصَّة قلبية لطيفة في مستودع الأسرار الإلهية ، كان للقلب طاقة نورانية نافذة إلى ملكوت السماوات ، متصلة بالأفق الأعلى ،غائرة بالوجدان إلى أغواره الدفينة لا تتغدى إلا بهذا الرافد الشعوري الذي يتصل بالعاطفة وينفذ إلى أعماق الضمير ، فتتصل العاطفة بالقلب فيتصل القلب بالنور الساري في أجزاء الكون كله : تفاصيله وذرّاته وممكناته .. ولله في خلقه شؤون !