آخر الأخبار

جاري التحميل ...

السِّرُّ فِي أَنْفَاِس الصوفِيَّة - 3

ولما كانت الخواطر هي المحركات للإرادات ، فإن النية والعزم والإرادة إنما تكون بعد خطور المنوي بالبال لا محالة . فبداية الأفعال الإنسانية تكون في الخواطر، فأنت لا تفعل الفعل بحركة آلية تلقائية كما لو كنت آلة ، ولا تفعله بحكم الغريزة كما لو كنت حيوانا ، ولكن تفعله بخاطر يرد على القلب يحرك البواعث ، والبواعث تحرك الرغبة ، والرغبة تحرك العزم ، والنية تحرك الأعضاء . وهكذا فالخواطر تحرك الرغبة ضرورة وتدفعها إلى الفعل إن كانت تدعو إلى الخير وهو مما ينفع في الآخرة ، فإنها تسمى "إلهاماً ، وإن كانت تدعو إلى الشر، وهو مما يضرُّ في الآخرة فإنها تسمى "وسواساً" . هكذا يُطلعنا الصوفية على أنهم بالفعل قد أسسوا لعلم الاحترام ؛ أسسوا للأخلاق وللتربية ، والاحترام المرء لذاته ولحقيقته الأصلية ، ولوجوده الإنساني المكرّم ؛ كونه من صُنع الله .

ولكم نجد أصولأ صوفية لا حصر لها لعلوم التربية والأخلاق والعلم النفس بمعناه الحديث . صحيح أن اللغة في هذه العلوم حديثة نسبياً والمصطلح قد يبدو في ظاهره غير المصطلح ، لكن المضمون واحد . ونحن حقيقة لو استرشدنا في مؤسساتنا التربوية والثقافية بمباحث الصوفية في هذه العلوم ودقائق تخريجاتهم لها ؛ لاستطعنا أن نمتلك ذخيرة روحية هائلة تفيد الناشئة بمقدار ما تفيد الإنسان المؤمن في مسيره ومصيره .

وإنما تأتي التربية للشعور الديني دُربة على معرفة الخواطر والتفرقة الفارقة فيما بينها ، والوقوف على فوارقها في مسارب النفس وبواطن الضمير ، ثم استعداد المرء على أن يعمل بمقتضى الصحيح الخيّر منها ويترك وراءه ما عداه : خليطٌ عجيبٌ من المحبة المتداخلة مع المعرفة ، ومزيجٌ غريبٌ من المعرفة التي قوامها في ضمير العارف سُلطان المحبة. 

على أن معرفة الخواطر الإيمانية والتفرقة بينها وبين الخواطر الشيطانية والنفسية من الضرورة التربوية في عناية الصوفية الأوائل بهذا الشأن ، وليس بغريب أن نرى الجنيد يُولي الخواطر والإشارات واللحظات أهمية كبيرة ، وبخاصة فى كتابه الذي نشرع في تحقيقه : أعني كتاب "السِّر في أنفاس الصوفية"، أو حتى في غير هذا الكتاب، حيث يقول : (اللحظة كلام ، والخطرة كلام السر ؛ والإشارة كلام الخفاء) .

أو يقول : "أهل القلوب ابتلوا باللحظات ؛ وأهل السر ابتلوا بالخطرات ، وأهل الخفاء ابتلوا بالإشارات". أو يرمز إلى أسرار القوم فيها فيقول في إحدى إشاراته : "إن لله عباداً يزؤن ما وراءهم من الأشياء : يزؤن أحوال الدنيا بلحظات قلوبهم ، وأحوال الآخرة بخطارات سرهم ، وأحوال ما عند الله بإشارات خفيهم " ؛ إلى أن يعطي الإشارة مقصودها لديه اللحظة كفران ، والخطرة إيمان ، والإشارة غفران " معناها : ملاحظة الأغيار كفر؛ ولا كفران أشدّ في قانون المعرفة من ملاحظة الأكوان دون المكوّن! وخطرة الإيمان تحقيق ؛ ولا تحقيق أعلى من يقين الإيمان على التحقيق ، وإشارة السر غفران ؛ ولا إشارة أصدق ولا أشوق من مناجاته تعالى بالمغفرة والرضوان. 

وما من شك في أن عناية الصوفية بالخواطر واللحظات والإشارات سبب مباشر لتملكهم زمام معارف النفس من أقرب طريق ، ووقوفهم على أسرارها وإحاطتهم بكيفية مجاهداتها وترويضها قطعاً على طلب المعالي من الأمور . ومن أجل هذا قالوا: "خاطر الخير سببه المَلَكُ. وخاطر الشر سببه الشيطان"، كما قال ابن مسعود رضى الله عنه : "وقد روينا من طريق مسند فى القلب لمّتان: لمّة من المَلَكُ إيعاذ بالخير وتصديق بالحق.
ومن صدق العزائم في توجّهات القلوب المستنيرة بنور الإيمان أن يُرَبّي العبد كل ما يرد عليه من خير الخواطر ؛ يزكيها لتكون "فعلا" يجزى عليه ويثاب أحسن المثوبة وأفضل الجزاء ، وأن يحفظ قلبه بسياج التقوى إذا ما ورد عليه خاطر الشر: يقلعه ويقمعه قبل أن يصير إرادة تنهض بالفعل على التحقيق . وبماذا يتم حذف الخواطر الشريرة ؟ بالاستعاذة بالله من نزغات الشيطان كما جاء في قوله تعالى جل ذكره: « وَإِمَّا يَزْعَلَك مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْعُ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمُ ». وإذا تقوّى في القلب نور الإيمان ؛ تقوَّت تباعا نافدة البصيرة المانعة عن النزغ والتلبيس ، تأمل قوله تعالى "« إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ».

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية