وإذا تقوّى في القلب نور الإيمان ؛ تقوَّت تباعا نافدة البصيرة المانعة عن النزغ والتلبيس ، تأمل قوله تعالى "« إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ».
تذكروا أن الله رقيب عليهم فشاهدوه بقلوبهم مشاهدة بصيرة على وعي من حقيقة اليقين. هذه البصيرة خطفة من عبقرية مُبصرة ناتجة عن التذكرة، هي لمحة فريدة من الإدراك العلوي. والتذكرة حركة قلبية تتولد عن فعل التقوى: أعني النور الإيماني الصادق في الترقية اليقينية المحفوظة داخل تلك اللطيفة المشار إليها بالقلب.
وأنت ترى في كل هذا كله، فعَالية الجهاد حركة معمولاً بها كل العمل، لا تعطل لحظة واحدة من لحظاتها الشريفة، إنْ فى الشعور وإنْ فى العمل، وإنها لتفضي عملها وتحقق طريقها في اللحظة الخاطفة والخاطر اللقاح، وذلك لأنها فعالية (المجاهدة) تتحكم في أدق الدقائق العمل النفس الباطني، وإنها القدرة لا تتهيأ لأحد إلا لأولئك الذين اكتسبوها بالنظام المقرّر في طريقهم،وبالأركان التي وضعوها قوائم لهذا الطريق: فعالية للجهاد وتمرين للعبد وتدريب لنفسه وتهيئة له للاتصال بالحقيقة الإلهية، فضلا عن كونه يحقق أكبر طاقات الطمأنينة القلبية والسلام النفسي ويجلب السعادة الداخلية التي يعز وجودها ويندر فيمن أرادوا أن يعطلوا نفوسهم وقواهم من تلك الفعالية الجهادية: أساس الإيمان والتقوى والتذوق لمعطيات الطريق.
ولك – إن شئت – أن تتصوّر أنه كلما مرّت "اللحظة" خاطراً ولم تتدارك ولم تضمحل صارت شهوة؛ وهنا تكوناللحظة كما في إشارة الجنيد السالفة كفرانا. وإذا لم تتدارك الشهوة صارت طلباً وإذا لم يتدارك الطالب صار عملا فعلياً مُحققاً في الواقع الفعلي. وسلطان الإيمان زاجرٌ لكل هذا ؛ وإذاما كان علوُّ كل قلب على قدر إيمانه ؛ لأن الإيمان في هذه الحالة هو هو "البصيرة القلبية" ذات القوة المانعة عن شرور الخواطر من جهة، ثم هو هو القوة الدافعة من جهة أخرى إلى خير الخواطر وتزكيتها بفضل الله. ولنلحظ ارتباط اللحظة بالخاطر زمانا ومكانا، وجودا وعدما، حضورا وغياباً، الأمر الذي يؤكد دقة كل منهما في تفعيل السلوك الإنساني ، فهذه اللحظة قد تتحول في النفس البشرية إلى عمل ضخم وكبير . وقد تنقلب بفعل الخواطر الشيطانية في نفس الوقت إلى كوارث آدمية، هي النفس الذي قال عنه أبو العباس بن عطاء: في نفس واحد نجاة العبد، وفي نفس واحد يكون كافراً بالله، وليس بعجيب عندنا – لأهمية الخواطر ومدى عناية الصوفية بها – أن نجد الجنيد في كتاب "السِّر في أنفاس الصوفية" كما قلنا، بل وفي غير هذا الكتاب أيضاً، يُفرد – هو وزملاؤه من الصوفية الأول الذين عاصروه ولازموه في ضحية الطريق – للخواطر وللحظات وللإشارات مساحة وافية تجيء فيها الإشارة لماحة ودالة ، فوق كونها معبرة عن أذواق القوم ومواجيدهم : ذات غور عميق في أسرار الطريق .