قال ابن عباد : هذا بيان علامة يعرف بها حال المُريد السالك ، وما تعمر به باطنه من المزيد المتدارك ، لأن الظاهر مرآة الباطن ، كما قيل :الأسرة تدل على السريرة ، وما خامر القلوب فعلى الوجوه يلوح أثره ، فما استودعه الله القلوب و الأسرارمن المعارف والأنوار لابد وأن تظهر آثار ذلك على الجوارح ، يستدل بشاهد العبد على غائبه من أراد صحبته والوصلة به ، وما أشبه هذا من الأغراض والمقاصد .
قال أبو حفص رضي الله تعالى عنه : حسن أدب الظاهر عنوان حسن أدب الباطن ،فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال :"لو خشع قلب هذا خشعت جوارحه ".وقيل لما ورد أبو حفص العراق جاء إليه الجنيد فرأى أصحاب أبي حفص وقوفًا على رأسه، يأتمرون لأمره لا يخطئ أحد منهم، فقال: يا أبا حفص، أدبت أصحابك أدب الملوك ؟ فقال: لا يا أبا القاسم ، ولكن حسن الأدب في الظاهر ، عنوان الأدب في الباطن . قلت : وآكد من ذلك أن يعرف المريد نفسه .ويكون من أمرها على بصيرة ولا ينخدع بما يتوهمه من صلاح سريرته دون علانيته ، فمن ادعى بقلبه معرفة الله تعالى ومحبته ، ولم تظهر على ظاهره ثمرات ذلك ، وآثاره من اللهج بذكره ، والمسارعة إلى اتباع أمره ، والاغتباط بوجوده ، والاستبشار عند يقين شهوده ، والفرار من القواطع الشاغلة عنه ، والاضراب عن الوسائط المبعدة عنه فهو كذاب في دعواه ، متحذ إلهه هواه . فإن كان موصوفا بأضداد هذه الخصال ، منحرفا بظاهره عن جادة الاعتدال فهو في دعواه أكذب ، وحاله للنفاق ، والشرك أقرب .
قال الشيخ أبو طالب المكي رضي الله عنه : قد جعل الله وصف الكافرين أنهم إذا ذكر الله وحده في شيء انقبضت قلوبهم ، وإذا ذكر غيره في شيء فرحوا .وجعل من نعوتهم أنهم إذا ذكر الله تعالى بتوحيده وإفراده بشيء غمطوا ذلك وكرهوه . وإذا أشرك غيره في ذلك صدقوا به .
فقال تعالى :"وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ" .
وقال أيضا :"ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا" .
والكفرُ : التغطية ، والشرك : الخلط ، أي إنه يخلط بذكره ذكر سواه ، ثم قال :"فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ" يعني لا يشركه خلق في حكمه ، لأنه العلي في عظمته الكبير في سلطانه ، لا شريك له في ملكه وعطائه ، ولا نظير له في عباده .
ففي دليل هذا الكلام وفهمه من الخطاب أن المؤمنين إذا ذكر الله بالتوحيد ، والافراد في شيء انشرحت صدورهم ، واتسعت قلوبهم ، واستبشروا بذكره وتوحيده ، وإذا ذكرت الوسائط والأسباب التي دونه كرهوا ذلك ، واشمأزت قلوبهم . وهذه علامة صحيحة ، فاعرفها من قلبك ، ومن قلب غيرك ، لتستدل بها على حقيقة التوحيد في القلب أو وجود خفي الشرك في السر ، إن كنت عارفا .
قلت : وهذه المسألة التي تضمنها كلام الشيخ أبو طالب رضي الله عنه من أعظم المسائل على صدق الصادق وكذب الكاذب ، ومن أوضح الدلائل .
ولما كان قصدنا في هذا التنبيه استغنام ذكر الفوائد العجيبة ، والحرص على رسم المقاصد الغريبة ، لغربة الدين في هذا الزمان الرذل ، واستيلاء الغرة ، والجهل على المنسوبين إلى العلم والفضل حسن منا إيراد هذه الكلمات على جهة ضرب المثل ، والاكتفاء بالنهْل عن العلَل ، ليعمل بمقتضى ذلك مريد سالك ، ولينتهج من مناصحة ربه في دينه وقلبه أوضح المسالك .وأجمل على هذا الأسلوب كل كلامهم تظهر لك مطابقته ، ولم يتم في نظرك مناسبته ؛ لتسلم بذلك من الاعتراض ، وتعلو همتك عما تولع به أصحاب القلوب المراض ، عافانا الله من ذلك بمنه وفضله .
غيث المواهب العلية في شرح الحكم العطائية