قال سيدي أبو مدين الغوث رضي الله عنه :
"المَحْفُوظُونَ عَلَى طَبَقَاتٍ أَيْ عَلَى مَرَاتِبَ ثَلاَثَةٍ فمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ ، وَمِنْهُمْ سَابِقُ بِالخَيْرَاتِ".
أما الرتبة الأولى : فهم عامة المسلمين محفوظون . كما قال محفوظون من الكفر والشرك بالهدى ، فلولا هداية الله لهم لما اهتدوا "وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا" ، إذ الإسلام موهبة من الله لعبده من غير اكتساب فمن اهتدى إليه ودخله كان محفوظا من الكفر والشرك المقتضيين للعذاب المهين المترتب بهما "إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ" ، فكانت هذه الهداية موجبة : للمغفرة وهي من نعم الله على عبده المؤمن .
وأهل الرتبه الثانية : وهم خواص المسلمين كما قال : المحفوظون عن الكبائر والصغائر بالعيان ، أي بسبب ما وقع لهم من العيان ، إما من مشاهدتهم لله ، وإما من مشاهدة الله لهم ، من الوقوع في الكبائر والصغائر بسبب مراقبتهم لله ، فصار قيامهم بالله ونظرهم إليه قد تولى أمرهم فصرف جوارحهم فيما يرضيه ، فهي دائرة بين واجب ومندوب ومرغوب ومحبوب لا يصرف أحدهم همته إلا فيما يرضي الله قائلا :
إن يكن يرضيك قتلي
فاجعل الموت في قربي
من كان عبدا لله كان الله له
والله ولي العبد مهما تولاه
كانت جوارحهم مقصورة في الطاعة ، لا تخرج عن ذلك إلا ما شاء الله ، بسبب العيان بلا تكليف ولا تحمل مشاق ، لما هم عليه من اللين في الباطن والظاهر " ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله " .
أما أهل الرتبه الثالثة : وهم خاصة الخاصة من الأمة المحمدية فمحفوظون من الخطرات والغفلات بالرعاية ، كما قال وهو الحق .
وهذا القسم يدخل فيه الأنبياء والمرسلون وخاصة الخاصة من الموحدين ، فحفظ الله تبارك وتعالى قلوب أوليائه من الخطرات والغفلات برعايته لهم حتى يصير قلب العارف لا يمر عليه ما سوى الله ولا يخطر عليه ما عداه ولا يغفل عن الحضور مع الله كما قيل :
مذ عرفت الأله لم أر غيرا
وكذا الغير عندنا ممنوع
مذ تجمعت ما خشيت افتراقا
وها أنا اليوم واصل مجموع
وقال بعضهم : وقفت على باب قلبي أربعين سنة مهما خطر عليه ما سوى الله رددته . وليس المراد بالخاطر إثبات وجود الغير فحاشاهم من ذلك ، إنما هو على سبيل النسيان الملازم للطباع البشرية ، ويكون ذلك بمنزلة الذنب عندهم ، كما قال بعضهم :
لا حرام علينا إلا نظرة
تقتضي لنا في الحق حجابا
ولا مكروه علينا إلا فكرة
تحدث في القلب وهما سرابا
" إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ " أي طائف من الطبع البشري من غير تمكن ذلك في بواطنهم ، وكل ذلك من رعاية الله لهم حتى صاروا يستوحشون من ذكر اسم الغير ، ولولا كل اسم من أسماء الموجودات تحته اسم من اسماء الله عز وجل لما تلفظوا بأسماء الغير ولو على سبيل التعليم ، ولكن لما كشف لهم عن وحدانيته في الذات والصفات والأفعال فوجدوا لا اسم مع اسم الله كما لا ذات مع ذاته ولا صفات مع صفاته ، كما قيل في هذا المعنى :
فهو واحد الذات في الكل ظاهر
فأينما ترى ثم وجه الحقيقة
فاستراحوا من الهفوات والخطرات والغفلات ، ومن كل وصف مناقض لحضورهم مع الله حتى صارت الغفلة عندهم يعتبرونها من جملة الكبائر ، لما قيل في هذا المعنى :
وإن خطرت لي في سواك إرادة
على خاطري سهوا قضيت بردتي
هذا إن خطرت له سهوا ، وأما لو كانت على سبيل التعمد تكون له قطيعة ، ولا يعد من أهل هذا المقام ، لما هو عليه من سدل الحجاب ، وكفاه حتى ارتسم بقلبه وجود الغير ، والقلب الذي يصور المحال ليس له في حضرة الله إقبال .