قال ابن عبَّاد :
حكم المريد أنه يتشوف إلى معرفة ما غاب عنه من معايب نفسه ، ويتطلّبها ، ويبحث عنها ؛ فإن ذلك هو حق الحق تعالى منه ، فينبغي أن يحرص عليه ، ويصرف فيها عنان اعتنائه إليه ، ليحصل له صفاء أعماله من الآفات ، ونقاء أحواله من الكدورات ، وينتفي عنه الجهل والغرور ، وتنقطع من باطنه مواد الشرور .وقد ذكر الشيخ أبو حامد الغزالي رضي الله تعالى عنه في كتابه :"رياضة النفس" فصلا في الطريق الذي به يتعرف الإنسان عيوب نفسه فلينظر فيه المريد .
وقد جعل حاصله أربعة أوجه :
أحدها : أن يجلس بين يدي شيخ بصير بالعيوب والآفات ، فيحكمه في نفسه ، ويتابع إشاراته فيما يشير به عليه .
والثاني : مصاحبة صديق صدوق يجعله رقيبًا على أحواله وأعماله، ينبهه على ما خفي عليه من مذام خلاله .
والثالث : أن يستفيد معرفة عيوبه من أعدائه ، إذ لابد من جريان ذلك على ألسنتهم عند ثلبهم وغيبتهم .
والرابع : أن يستفيد ذلك من مخالطة الناس ، إذ يطلع بذلك على مساويهم ، فإذا اطلع عليها منهم علم أنه لا ينفك عن شيء منها ؛ لأن كل الطباع البشرية في ذلك متقاربة ، وقد يظهر له في نفسه ما هو أعظم مما يراه في غيره ، فيطالب نفسه حينئذ بالتطهر منها ، والتنزه عنها ، فهذا تلخيص ما ذكره .
ثم قال : هَذَا كُلُّهُ مِنْ حِيَلِ مَنْ فَقَدَ شَيْخًا عارفاً ذكيًّا بصيراً بعيوبِ النَّفْسِ ، مشفقاً ناصحاً في الدّين ، فارغاً من تهْذيبِ نفسِهِ ، مشْغولاً بتهذيبِ عباد الله ، ناصِحاً لهُم ، فَمَنْ وَجَدَه الطَّبِيبَ فَلْيُلَازِمْهُ ؛ فهو يخلصه من مرضه وينجيه من الهلاك الذي هو بصدده .
وأمّا طلبه للغيوب المحجوبة عنه من خفايا القدر ، ولطائف العبر ، فإنه حظ نفسه ، لا حق عليه فيه للحق تعالى ، فليَطِبْ عنها نفسا ، ولا يشغل بها عقلاً ولا حسًّا ، وما ظهر له منها لا يسكن إليه ، ولا يعَوِّلُ عليه ، فإن ذلك من المعايب القادحة في عبوديته ، ولهذا قالوا : كن طالباً للاستقامة ، ولا تكن طالباً للكرامة فإن نفسك تتحرك وتطلب الكرامة ، ومولاك يطالبك بالاستقامة ، ولإن تكون بحق مولاك أولى بك من أن تكون بحظ نفسك .
ومن الحكايات في المعنى الذي ذكرناه ماروي في الإسرائيليات عن وهب بن منبه رضي الله تعالى عنه : أن رجلاً مم بني إسرائيل صام سبعين سنة ، يفطر في كل سنة ستة أيام ، فسأل الله تبارك وتعالى : أن يريه كيف تقوى الشياطين على الناس ؟ فلما طال ذلك عليه ، ولم يجب ، قال : لو اطلعت على خطيئتي وذنبي بيني وبين ربي لكان خيراً لي من هذا الأمر الذي طلبته ، فأرسل الله إليه ملكاً ، فقال له : إن الله تعالى أرسلني إليك ، وهو يقول لك : إن كلامك هذا الذي تكلّمتَ به أحبُّ إليَّ ممَّا مضى من عبادتك ، وقد فتح الله بصرك ، فانظر ، فإذا جنود إبليس قد أحاطت بالأرض ، وإذا ليس أحدٌ من الناس إلاّ والشياطين حوله كالذباب ، فقال " أي ربِّ من ينجو من هذا ؟
قال : الورِعُ الليِّن .
وسيأتي بيان أن الكرامات غير مطلوبة التحصيل ، ولا مغتبط بوجودها لدى كل عالم نبيل عند قوله :"ليس كل من ثبت تخصيصه كمل تخليصه" .
تعقيب :
تطلعك أيها الإنسان إلى ما خفي فيك من العيوب ، كالحسد والكبر والعجب والرياء . وسعيك للتخلص منها أفضل من تطلعك إلى ما حُجِبَ عنكَ من الأسرار مثل : أسرار العباد ، وما يأتي به القدر ، والأسرارالإلهيّة ؛ لأنَّ تطلُّعكَ إلى عيوبكَ سببٌ في حياة قلبك ، أمّا تطلُّعك إلى الغيوب فإنما هو فضول ، وقد يكون سبباً في هلاك نفسكَ ، فَبَحْثُكَ عن عُيوبكَ ، وسعيكَ في التطهير منها أولى من تطلّعكَ إلى ما حُجبَ عنكَ من الغيوب .