البسوق : الطول : يقال بسقت النخلة بسوقاً لإذا طالت ، قال الله تعالى : (والنخل باسقات) و الأغصان : جمع غصن ، وهو ما تشعب عن سوق الشجر،ويجمع أيضاً على غصون.
والبذر : الحب الذي يزرع ، وهذه كلها استعارات مليحة
والطمع من أعظم آفات النفوس، وعيوبها القادحة في عبوديتها، بل هو أصل جميع الآفات، لأنه محض تعلق بالناس، والتجاء إليهم، واعتماد عليهم وعبودية لهم، وفي ذلك من المذلة والمهانة مالا مزيد عليه، ولا يحل للمؤمن أن يذل نفسه، والطمع مضاد لحقيقة الإيمان، الذي يقتضي وجود العزة، والعزة التي اتصف بها المؤمنون إنما تكون برفع هممهم إلى مولاهم، وطمأنينة قلوبهم إليه، وثقتهم به دون من سواه، فهذه هي العزة التي منحها الله عبده المؤمن.. «ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين» (المنافقون: 8) وكما أن العزة من صفات المؤمنين كذلك المذلة من أخلاق الكافرين والمنافقين.. «إن الذين يحادون الله ورسوله أولئك في الأذلين» (المجادلة: 20).
قال أبو بكر الوراق الحكيم رحمه الله لو قيل للطمع من أبوك؟! قال: الشك في المقدور، ولو قيل له: ما حرفتك؟ قال: اكتساب الذل، ولو قيل: ما غايتك؟ قال: الحرمان.
وقال أبو الحسن الوراق النيسابوري رحمه الله من أشعر في نفسه محبة شيء من الدنيا فقد قتلها بسيف الطمع، ومن طمع في شيء ذل، وبذله هلك، وقد قيل في ذلك:
أتطمع في ليلى وتعلم أنما تقطع أعناق الرجال المطامع فالطامع لا محالة فاسد الدين، مفلس من أنوار اليقين، قال في التنوير: وتفقد وجود الورع من نفسك أكثر مما تتفقد ما سواه، وتطهر من الطمع في الخلق، فلو تطهر الطامع فيهم بسبعة أبحر ما طهره إلا اليأس منهم، ورفع الهمة عنهم.
ويذكر أن أمير المؤمنين علياً رضي الله عنه قدم البصرة، فدخل جامعها، فوجد القصاص يقصون، فأقامهم (منعهم)، حتى جاء الحسن البصري رحمه الله فقال: يا فتى إني سائلك عن أمر فإن أجبتني عنه أبقيتك، وإلا أقمتك كما أقمت أصحابك وكان قد رأى عليه سمتاً وهدياً فقال الحسن: سل عما شئت، قال: ما ملاك الدين؟ قال: الورع. قال: فما فساد الدين؟ قال: الطمع، قال: اجلس فمثلك من يتكلم على الناس».
وسمعت شيخنا رضي الله عنه يقول :كنت في ابتداء أمري بثغر الإسكندرية، جئت إلى بعض من يعرفني، فاشتريت منه حاجة بنصف درهم، ثم قلت في نفسي: لعله لا يأخذه مني، فهتف بي هاتف: "السلامة في الدين، بترك الطمع في المخلوقين"، وسمعته يقول: "صاحب الطمع لا يشبع أبدًا؛ ألا ترى حروفه كلها مجوفة! الطاء والميم والعين" .
فعليك أيها المريد برفع همتك عن الخلق ولا تذل لهم ، فقد سبقت قِسمَتُكَ وجودَك ، وتقدم ثبوتُه ظهورك ، واسمع ما قاله بعض المشايخ : أيها الرجل : ما قدر لماضِغَيْك أن يَمضُغاه فلابدّ أن يمضغاه ، فكُلْهُ - ويحك - بعِزٍّ ، ولا تأكله بذُلٍّ .
تقدم الآن من كلامه في التنوير ذكر الورع في مقابلة الطمع وكذلك في جواب الحسن البصري لإمامنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم وجهه لما سأله مستخبرا عن صلاح الدين وفساده في الكلام الذي حكاه عنهما ، ولا شك أن الورع الظاهر لعامة الناس وهو ترك المتشابهات والتخرج من اقتحام المشكلات لا يقابل الطمع كل المقابلة ، وقد ذكرنا الطمع ما هو ، وإنما يقابله ورع الخاصة ، وهو عندهم صحة اليقين ، وكمال التعلق برب العالمين ، ووجود الشكوى إليه ، وعكوف الهمم عليه ، وطمأنينة القلب به ، ولا يكون له ركون إلى غيره ، ولا انتساب إلى خلق ولا كون ، فهذا هو الورع الذي يقابل الطمع المفسد . وبه يصلح كل عمل مقرب ، وحال مُسعِد ، كما ، كما نبه علي الحسن رضي الله عنه في جوابه المذكور .
قال يحيى بن معاذ رضي الله عنه : الورع على وجهين : ورع في الظاهر : وهو ألا تتحرك إلا لله . وورع في الباطن : وهو أن لا يدخل في قلبك إلا الله . ذكرأن بعضهم كان حريصاً على أن يرى أحداً ممن هذه صفته ، فجعل يجتهد في طلبه ، ويحتال على التوصل إليه ، بأن يأخذ الشيء بعد الشيء من ماله ، ويقصد به الفقراء والمساكين ، ويقول لمن يعطيه حين المناولة : خذ ، لا لك ، فكانوا يأخذون ، ولا يسمع من أحد منهم جواباً مطابقاً لما أراده بكلامه . إلى أن ظفر ذات يوم ببغيته ، وحصل على مقصوده ومنيته ، وذلك أنه قال لأحدهم : خذ ، لا لك فقال له : آخذه ، لا منك .
فإن كان للعبد أستشراف إلى الخلق ، أو سَبْقِيَّة نظر إليهم قبل مجيء الرزق أو بعده ، فمقتضى هذا الورع والواجب في حق الأدب إلا ينيل نفسه شيئاً مما يأتيه على هذا الحال ، عقوبة لنفسه في نظره إلى أبناء جنسه . كقصة أيوب الحمال مع أحمد بن حنبل رضي الله عنهما . وهي معروفة . وكما روي عن الشيخ أبي مدين رضي الله عنه أنه أتاه حمال بقمح فنازعته نفسه ، وقالت له : يا ترى من أين هذا ؟ فقال لها : أنا أعرف من أين هو ، يا عدوة الله ، وأمر بعض أصحابه أن يدفعه لبعض الفقراء عقوبة لها ، لكونها رأت الخلق قبل رؤية الحق تعالى . وقد قيل أن أحلُّ الحلال ما لم يخطر على بال ، ولا سألت فيه أحداً من النساء والرجال . وقد صرح بهذا المعنى الذي ذكرناه ، وأوضح الغرض الذي قصدناه شيخ الطريقة وإمام الحقيقة من المتأخرين أبو محمد بن العزيز المهدوي رضي الله عنه ، فإنه قال : اعلم أن الورع ألا يكون بينك وبين الخلق نسبة في أخد وعطاء أو قبول أو رد ، وأن يكون السبق لله تعالى ، وهو أن يأتي إليه طاهراً من جميع الأشياء .
من العلم والعمل كما قال : (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) .
وقال أيضا : الورع ألا يخطر الرزق بالبال ، ولا يكون بينه وبينه نسبة : لا في التحصيل ولا عند المباشرة ، لأنه لا يدري : أيأكل أم لا ؟
وقال أيضا : الورع ألا تتحرك ولا تسكن إلا وترى الله في الحركات والسكون ، فإذا رأى الله ذهبت الحركة والسكون ، وبقي مع الله فالحركة ظرف لما فيها ، كما قال بعضهم : ما رأيت شيئاً إلا رأيت الله فيه، فإذا رأيت الله ذهبت الأشياء .
وقال أيضا : أجمع العلماء على أن الحلال المطلق ما أخذ من يد الله بسقوط الوسائط ، وهذا مقام التوكل ، ولهذا قال بعضهم : الحلال هو الذي لا يُنسي الله فيه ، إلى غير هذا من العبارات التي عبر بها في هذا المعنى .
وقال بعض هذه الطائفة : العبيد كلَّهم يأكلون أرزاقهم من المولى ، ثم يفترقون في المشاهدات . فمنهم من يأكل رزقه بذلّ ، ومنهم من يأكل رزقه بامتهان ، ومنهم من يأكل رزقه بانتظار ، ومنهم من يأكل رزقه بعزّ بلا مَهْنَةٍ ولا انتظار ولا ذلَّة . فأما الذي يأكلون أرزاقهم بذلّ ، فالسؤال يشهدون أيد الخلق فيذلَّون لهم ، والذين يأكلون بامتهان ، فالصناع يأكل أحدهم رزقه بمهنة وكره ، والذين يأكلون أرزاقهم بانتظار ، فالتجار ينتظر أحدهم نفاق سلعته فهو متعوب القلب معذّب بانتظاره ، والذين يأكلون أرزاقهم بعزّ من غير مَهْنَةٍ ولا انتظار ولا ذل - فالصوفية يشهدون العزيز ، فيأخذون قسمهم من يده بعزة .
قال سهل بن عبد الله : ليسمن الإيمان أسباب ، إنما الأسباب في الإسلام .
قال الشيخ أبو طالب رضي الله تعالى عنه : معناه ليس في جقيقة الإيمان- رؤية الأسباب والسكون إليها ، إنما رؤيتها والطمع في الخلق - يوجد في مقام الإسلام.
وقد عقد المؤلف رحمه الله تعالى في "لطائف المنن" فصلا في هذا المعنى وجعله لجميع وظائف الآداب الدينية أصلا ومبنى ، فرأينا نقله في هذا الموضوع من صواب العمل ، والتكفل إن شاء الله بنجاح الأمل .
قال رضي الله عنه : واعلم -رحمك الله- أنَّ ورع الخصوص لا يفهمه إلا قليل؛ فإنَّ من جملة ورعهم تَوَرُّعُهُم من أن يسكنوا لغيره، أو يميلوا بالحب لغيره، أو تمتد أطماعهم بالطمع في غير فضله وخيره.
ومن ورعهم: ورعُهُم عن الوقف مع الوسائط والأسباب وخلع الأنداد والأرباب.
ومن ورعهم: ورعُهم عن الوقوف مع العادات، والاعتماد على الطاعات، والسكون إلى أنوار التجليات.
ومن ورعهم: ورعُهُم عن أن تَفْتِنَهُمُ الدُّنْيَا أو توقفهم الآخرة، تورعوا عن الدنيا وفاءً، وعن الوقوف مع الآخرة صفاءً.
قال الشيخ عثمان بن عاشوراء: خرجت من بغداد أريد الموصل، فأنا أسير وإذ بالدنيا قد عُرِضَت عليَّ بعزها وجاهها ورفعتها ومراكبها وملابسها ومن بناتها ومشتهياتها؛ فأعرضتُ عنها، فعرضت عليَّ الجنةُ بحورها وقصورها وأنهارها وثمارها؛ فلم أشتغل بها، فقيل لي: «يا عثمان، لو وقفت مع الأولى لحجبناك عن الثانية، ولو وقفت مع الثانية لحجبناك عنها؛ فها نحن لك وقسطُك من الدارين يأتيك».
وقال الشيخ عبد الرحمن المغربي، وكان مقيمًا بشرقِيِّ الإسكندرية: حججت سنة من السنين، فلما قضيت الحج عزمت عليَّ بالرجوع إلى الإسكندرية، فإذا علي يقول لي: «إنك العام القابل عندنا»، فقلت: «إذا كنت العام القابل ها هنا فلا أعود إلى الإسكندرية، فخطر لي الذهاب إلى اليمن؛ فأتيت إلى عَدَنَ، فأنا يومًا على ساحلها أمشي، وإذا أنا بالتجار قد أخرجوا بضائعهم ومتاجرهم، ثم نظرت فإذا رجل قد فرش سجادة على البحر ومشى على الماء، فقلت في نفسي: «لم تصلح للدنيا ولا للآخرة»، فإذا علي يقول لي: «من لا يصلح للدنيا ولا للآخرة يصلح لنا».
وقال الشيخ أبو الحسن: «الورع نعم الطريق لمن عُجِّلَ ميراثه وأُجِّلَ ثوابه»؛ فقد انتهى بهم الورع إلى الأخذ من الله وعن الله، والقول بالله، والعمل لله وبالله، على البَيِّنَةِ الواضحة والبصيرة الفائقة؛ فهم في عموم أوقاتهم وسائر أحوالهم، لا يدبرون ولا يختارون، ولا يريدون، ولا يتفكرون ولا ينظرون، ولا ينطقون ولا ينبسطون، ولا يمشون ولا يتحركون إلا بالله من حيث يعلمون، هجم بهم العلم على حقيقة الأمر؛ فهم مجموعون في عين الجمع، لا يتفرقون فيما هو أعلى ولا فيما هو أدنى.
وأما أدنى الأدنى فالله يورعهم عنه ثوابًا لورعهم، مع الحفظ لمنازلات الشرع عليهم، ومن لم يكن لعلمه وعمله ميراث؛ فهو محجوب بدنيا أو مصروف بدعوى، وميراثه التَّعَزُّزُ لخلقه، والاستكبار على مثله، والدال على الله بعمله؛ فهذا هو الخسران المبين، والعياذ بالله العظيم من ذلك.
والأكياس يتورعون عن هذا الورع ويستعيذون بالله منه، ومن لم يزدد بعمله وعلمه افتقارًا لربه وتواضعًا لخلقه؛ فهو هالك، فسبحان من قطع كثيرًا من الصالحين بصلاحهم عن مُصْلِحِهِم، كما قطع كثيرًا من المفسدين بفسادهم عن مُوجِدِهِم، فاستعذ بالله؛ إنه هو السميع العليم.
فانظر -فَهَّمَك الله سبل أوليائه ومَنَّ عليك بمتابعة أحبابه- هذا الورع الذي ذكره الشيخ }، هل كان يصل فهمك إلى مثل هذا النوع من الورع؟ ألا ترى قوله: «فقد انتهى بهم الورع إلى الأخذ من الله وعن الله، والقول بالله،والعمل لله وبالله، على البينة الواضحة والبصيرة الفائقة»؛ فهذا هو ورع الأبدال، والصديقين لا ورع المتنطعين الذي ينشأ عن سوء الظن وغلبة الوهم انتهى .
وإنما أوردنا هذه المعاني ههنا ، تتميما للفائدة المتعلقة بكلام صاحب "التنوير" من كون الورع مقابلا للطمع وسيأتي مزيد بيان فيها في موضع أنسب من هذا ، عند قوله :"لا تمدن يدك إلى الأخد من الخلائق" إلى آخره .