وأما المحبة فهي أول أودية "الفناء" والعقبة التي يتحدر منها على منازل "المحو" وهو آخر منزل تلتقي فيه مقدمة العامة بساقة الخاصة وما دونها أغراض لأغراض ، للعوام منها شرب وللخواص منها شرب . قال الله تعالى : {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ}.
وقد اختلفت إشارات أهل التحقيق منهم في العبارة عنها ، وكل من القوم نطق بحسب ذوقه وأفصح عنه بمقدار شربه وذوقه . وهي على الإجمال قبل أن تنتهي إلى التفصيل . إنها وجود تعظيم في القلب يمنع الشخص من الانقياد لغير محبوبه .
وقيل إيثار المحبوب على غيره ، وقيل موافقته فيما ساءَ وسرَّ ، ونفعَ وضرَّ .
وقيل : المحبة القيام بين يديه وأنت قاعد ، ومفارقة المضجع وأنت راقد ، والسكوت وأنت ناطق ، ومفارقة المألوفات والوطن وأنت مستوطن .
وقال قوم : ليس للمحبة صيغة يعبر بها عن حقيقتها ، فإن الغيرة من أوصاف المحبة ، والغيرة تأبى إلا الستر والإخفاء . وكل من بسط لسانه بالعبارة عنها والكشف عن سرها فليس له منها ذوق ، وإنما حركة وجدان الرائحة ، ولو ذاق منها شيئا لغاب عن الشرح والوصف . فالمحبة الصادقة لا تظهر على المحب بلفظه ، وإنما تظهر بشمائله ولحظه ، ولا يفهم حقيقتها من المحب سوى المحبوب لموضع امتزاج الأسرار من القلوب .
وأما محبة العوام فإنها تنبت من مطالعة المنة وتثبت باتباع السنة ، وتنموا على الإجابة للعناية ، وهي محبة تقطع الوساوس وتلذذ الخدمة ، وتُسلّي عن المصائب ، وهي في طريق العوام عمدة الإيمان .
وأما محبة الخواص فهي محبة خاطفة تقطع العبارة ، وتدقق الإشارة ولا تنتهي بالنعوت ولا تعرف إلا "بالحيرة" والسكوت .
وحكي أن عيسى عليه السلام مرّ في بعض أسفار سياحته على جبل فيه صومعة فدنا منها فوجد فيها عابدا قد انحنى ظهره ونحل جسمه ، وبلغ به الإجهاد أقصى غايته . فسلم عليه عيسى عليه السلام ، فرد عليه ، وعجب مما رأى من شواهده فقال له عيسى : منذ كم وأنت في هذه الصومعة ؟! . فقال : منذ سبعين سنة أسأله حاجة واحدة فما قضاها لي بعد ، فعساك يا روح الله أن تكون شفيعي فيها ، فلعلها تُقض لي . فقال عيسى عليه السلام : فما حاجتك ؟ قال : سألته سبحانه أن يذيقني مقدار ذرة من خالص محبته . فقال له عيسى عليه السلام : أنا أدعوا الله تعالى لك في ذلك ، فدعا له عيسى عليه السلام في تلك الليلة . فاوحى الله تعالى إليه : قد قبلتُ شفاعتكَ فيه وأجبتُ دعوتكَ فعاد عيسى عليه السلام بعد أيام إلى الموضع لينظر ما كان من حال العابد ، فرأى الصومعة قد وقعت والأرض التي تحتها قد ظهر فيها شق عظيم ، فنزل عيسى عليه السلام في ذلك الشق ، وانتهى فيه فراسخ ، فرأى العابد في مغارة تحت ذلك الجبل واقفا شاخصا بصره فاتحا فَاه . فسلم عليه عيسى عليه السلام فلم يرد عليه جوابا ، فعجب عيسى عليه السلام من حاله فهتف به هاتف : يا عيسى إنه سألنا مثقال ذرة من خالص محبتنا ، وعلِمنا أنه لا يقدر على ذلك ، فوهبنا له جزء من سبعين ألف جزء من ذرة ، وهو حائر فيها كما ترى . فكيف لو وهبنا له أكثر من ذلك .
فمحبة الخواص من هذه المعادن رشَحَت ، وبهذه الأوصاف عرفت . فعند القوم إن كل ما كان من العبد فهو عِلّة تليق بعجز العبد وفاقته ؛ إن غفل عن قوله تعالى :(وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) ، إنما عين الحقيقة عند القوم أن يكون قائما بإقامة الحق له ، محبا بمحبته له ، ناظرا بنظره له من غير أن يبقى معه بقية تناط باسم أو تقف على رسم ، أو تتعلق بأثر أو تنعت بنعت أو توصف بوصف ، أو تنسب إلى وقت كما قال تعالى : (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا) . يريد قياما بحق "الحق" وبإقامته لهم ، وقعودا عن الدعوى فيه : ( وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ) ، (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ) ، (إِن كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ) صم بكم بغير الحق لا يسمعون وبغير ذكره لا ينطقون .
** ** **