وحاصل الأمر أن وجود الغير ممنوع وهالك إذ لا يتصف بوجود ولا بعدم ، هذا مثال المستحيل والله أعلم . وأما الجائز عندهم والمتعاطي بينهم إثباتهم للخلق على وجه المجاز والمعاملة ، ونفيهم على ما يقتضي الجمع والمواصلة على حد سواء ، فهذا المقام مستوى الطرفين إن شاء أحدهم أثبت وجود الخلق في نظره لكي يقع التعاطي بينهم والمخالطة ، وإن شاء محاهم حتى لا يقع تنازع ولا مشاططة . ولهذا قال مولانا عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه : "وإن شئت أفنيت العالم بلمحتي" وحاصل الأمر إن إثبات الخلق ونفيهم في نظر القوم على حد سواء، ولم يكن لهم في رؤيتهم للخلق عدم مشاهدتهم. الخالق كلا، وإنما هو لا انفالك بين ذا وذاك ، لكونهم إذا أثبتوا الخلق أثبتوهم بالله وإذا محقوهم ففي الله . قال في الحكم : "الأكوان ثابتة بإثباته ممحوة بأحدية ذاته".هذا معنى الجائز عندهم والله أعلم.
ثم قسم كلا من الجائز والواجب والمستحيل إلى ضروري ونظري . فالضروري هو الذي يدركه العارف بغير تأمل ، والنظري هو الذي يدركه بعد تأمل لدقته . فمثال الواجب الضروري إثبات الوحدانية لله ، فإن العارف يدركها بلا تأمل ولا تخيل ، وظهورها عند القوم أمر واضح كظهور الشمس على العالم . ومثال الواجب النظري كإثبات القدرة مع وجود القادر ، فهذا لا يثبت لأحدهم حالة استغراقه في عظمة الذات إلا بعد التأمل ، لأن ظهور الذات يقتضي بطون الأسماء والصفات ، ومن تحقق بعظمة الذات لا يمكن له أن يثبت شيئاً زائداً على الذات لعدم تحيزها وشدة ظهورها . وهذا المقام لا يدركه إلاّ من ذاقه واستغرق فيه . ومثال المستحيل الضروري كون الذات العلية متحيزة ، تعالى الله عن ذالك علواًّ كبيراً ، فهذا عندهم يدرك بلا تأمل . ومثال المستحيل النظري كمنع رؤية الحق فيما سوى هذا المظهر ، بحيث يريد العارف أن يراه خارج العالم فهذا مستحيل لكنه نظري ، فإن العارف قبل تأمله لا يتحقق بالمنع حتى يتمكن ويرسخ في الشهود ، فإنه يدرك ذلك ويتحقق عدم رؤية الحق خارج المظهر لعدم التحيز ، فلهذا لا يدركها ولو تهتك من شدة الحرص.
ولهذا لما سأل موسى عليه السلام الرؤية من الله في غير هذا المظهر أجابه بقوله "لن تراني لأني لست خارج العالم ، ولست داخله ولا منفصلاً عنه ، ولا متصلاً به ، فأنا الكل منك ، مالَك عني غافل ؟ لو تحققت قربي منك لصرت ذاهلاً . فانظر لنفسك والتفت لحسك ، وانظر للمكان المستقر عليه ، وهو الجبل ، فإن استقر مكانه فسوف تراني" فلما تجلى ربّه للجبل وزال عن موسى وجود الظل ، وتمكن الفصل بالوصل ، صار الجبل وسائر الأمكنة في نظره دكاًّ وخرَّ موسى صعقاً ، وذلك لما تلاشى البين وزال الأين ، وقرّت العين بالعين . وهذا الكلام لا يدركه إلا من كان موسوي المقام ، وهذا مثال المستحيل النظري عند القوم . ومثال الجائز الضروري عندهم هي جذبة أحد من الخلق لحضرة الحق ، فيصير من أهل المشاهدة من غير أن تسبق له مجاهدة ، فهذا مثال الجائز الضروري . ومثال الجائز النظري هو إخراج الله تبارك وتعالى لأحد أحبائه من أهل المشاهدة والاقتراب . إلى وجود القطيعة وسدل الحجاب ، فهذا جائز هنا لكن لا يدركه أحد إلا بوجود التأمل لغرابته عند القوم حفظنا الله والمسلمين آمين .