إذا نحن لم نستطع أن نتعرّف الطريق، ولا أن نمضي فيه بجد لا هزل فيه، ولا أن نفهم مقاصده وغاياته،ولا أن ندرك أهدافه وقيامها فى بواطن أصحابه وضمائرهم الدينية والمعرفية، فلا يجوز لنا بالمرة – تحت دعوى العقل والمعقولية – نقده ونقد المنتسبين إليه؛ لأن مثل هذا النقد فوق كونه خبط عشواء فهو ضد منطق العقل نفسه.الطريق يكون بالتعرُّف" قبل النقد .. وهل يصحُّ في منطق العقل نفسه أن ننقد شيئاً قبل أن نعرفه ؟!
هل يجوز فيحُكم العقل أن نضرب بالعقل في طريق لم يقم أساساً على العقل والمعقول؟! الطريق لسان صدق؛ وبين العقل والصدق حدود وسدود وحواجز وقيود.
قد يقال: إننا نعرف الطريق حين نقرأ عنه، وها نحن أولا قد قرأنا عنه الكثير فلم نستسغ ما فيه،فرفضناه رفض العارف لا الجاهل !!. وهذا غير صحيح؛ لأن القراءة وحدها لا تُعرّف الطريق، ولا تجعل منه مادة حياة، ولا تُبيّن مداخله ولا مساربَه ولامواطن قوته ولا مجاري التفكير فيه . ولو أنك قرأت التصوف من مجرّب بعد أن تأخذه تجربة وحياة لتذوّقته، وأحسَسْت به، وشعرت شعور الشاعرين بمدى صدق رجاله في كلماتهم الدالة على أحوالهم،عندها يظهر لك الفرق الفارق بين باحث يدرس التصوف من الخارج وهو معزول عن "النور" يتبدّى الذي يدرسه ظلمة ولو كان مغرماً بشذور العارفين ، وبين يقين متحقق ذاق الطريق واستبان له نوره على يقين من ذلك النور .
التعرُّف لمذهب أهل التصوف لا يتأتى بالمقروء وكفى، ولا تكفي القراءة فيه أن تجعل من القارئ عارفاً، هو علاقة لا قراءة، ولأن كتب القوم أحوال قلوب ومناجاة سرائر، وأحوال القلوب ومناجاة السرائر حياة، وحركة، وفعل، وإيجابية، وتلقي، وإلقاء، ولقاء بالحقيقة لقاءاً مباشراً يتعانق فيه الصوفي مع المطلق، ومعانقة الصوفي للمطلق: حبّ، وتبتّل، وانقطاعٌ ، وشعورٌ دائمٌ بالمعية ، وليس هو من قبيل ادعاء العقل للمعرفة !
فما المطلوب إذن؟.. ولماذا كل هذه التقريرات الصارخة بما يكشف عن مُعاداة العقل البشري المكرّم سلفا من عند الله؟!.
من الواضح أننا لا نعادي العقل ولا نخاصمه لمجرد المعادلة والمخاصمة، وليس لمثلنا أن ينزع نزوع المعاداة والخصومة للعقل وهو أعرف بداية بحدوده، ثم كيف لمثلنا أن يعادي النعمة الإلهية الممدوحة من عند الخالق، جل وعلا، لكننا تُفرّق هنا بين عقلين: نظري محدود مراده الجدل والمنازعة والخصومة ونصرة الهوى وتشهي الغلبة والاستعلاء، وعقل غريزي عملي فطري مفتوح. الأول: بإزاء التصوف مرفوض؛ لأنه عاجز لا يدل إلاعلى عاجز مثله. والثاني: مقبول لأنه يحيل إلى ما بعده، وإلى ما فوقه من مراتب الوعي والإدراك. الأول: ينكر التجربة الروحية ويسخر منها ويتندّر عليها. والثاني: يصدقها ويعمل على شرحها وتحليلها وبيان فوارقها فيمنبت الشعور وقرارة الضمير. المطلوب إذن أن نعرف شيئاً عن علوم القوم ، فإذا عرفتَ فالْزَم : الزم العمل ، ودع عنك الجدل ، وادخل - إن أردت - هذا الرحاب العلوي الأكرم بأدب الافتقار والتسليم ، وذُقْ مَذاقَ القوم ثم انظر .. ماذا ترى ..؟!! .. ألق عصاك واترك عكازك : نفسك أو عقلك ، ألق عصَاكَ ؛ فهذا جانب الوادي!!.
هذا الطريق مبنيّ على أركان لا يتخطاها إلى عبث العقول: العقل عكاز الغافلين! وهذا الطريق العلوي الأكرم مبنيّ على الحب، وعلى العاطفة والوجدان، وعلى معاناة التجربة. هذا الطريق مبنيّ على "البُرقة المحرقة" كما جاء فى تعريف الشبلى للتصوف".
سأل رجل أحد الأولياء أن يقرأ عليه تائية ابن الفارض فقال له : دَع عنك هذا ..! من جاع جُوع القوم، وسهر سهرهم: رأى ما رأوا ...!". وإليه الإشارة من قول الجنيد وهو يصيب فيه هذا المعنى:" ما أخذنا التصوف عن القيل والقال، ولكن عن الجوع، وترك الدنيا، وقطع المألوفات والمستحسنات " وفيه ما يثبت أن التصوف فاعلية ذوقية: سُلوبُ الذات عن كل ما هو مستحسن مألوف، ومفارقة أنماط التعوّد وكسرها بالكلية، والدُربة على التبتّل وقطع الألفة المستحسنة لكل ما هو مرغوب فيه ، وأن طريقه ركوب المتاعب وممارسة الشدائد والمشقات ، وأن المقولة فيه ليست تجدي نفعاً لصاحبها بالقياس إلى التجربة ، وأن الصوفية أرباب "أفعال" لا أصحاب "أقوال" .
لما كتب ابن عطاء الله السكندري كتابه " التنوير في إسقاط التدبير"؛ تلوّنت عباراته فيه بألوان الأدب الرفيع، وأخذت تتنوع في تجربته، وتتلاحق أحواله فيها مع كل لون في كل حال، فجادت أنفاسه بكلمات حرة طليقة تكتب بدماء القلوب؛ عبرت عن نفس المعنى السابق تقريباً، ولكن بلونه هو، وبذائقته هو، حيث قال: فإذا أردت الإشراق والتنوير فعليك بإسقاط التدبير ، واسلك إلى الله كما سلكوا ، تدرك ما أدركوا ، اسلك مسالكهم وانهج مناهجهم ، والق عصاك فهذا جانب الوادي .
ألق عصاك .. فهذا جانب الوادي..!!.. إنها الإشارة مقطوعة قطعاً من نفْسِ صاحبها ، منزوعة من بواطنه وأعماقه؛ دالة على تجربته في الطريق: قطعة معاناة خالصة، لكأنما كتبها بكل ألوان المقاساة فيه، بكليته الإدراكية والروحية، بالدم لا بالمداد، تدعو إلى خوض غمار التجربة وتذوق علوم الحال وتفريغ المحل لما ينبغي أن يحل. إن هذه الإشارة لهي التعبير الدقيق عن حياة الروح: الحياة التي يجود فيها الشهيد بروحه ؛ فكأنما الشهيد يبذل دمه قرباناً لتلك المعاني الوجودية الكبرى : معاني التضحية، ومعاني الفداء بكل معانيه، فكذلك المتصوف يبذل نفسه كلها، وحياته كلها، ويرفض دنيا الأغيار بالكلية حين يخوض التجربة "خوض الجسور لا خوض الجبان الحذور، ليواجه عالم الروح قرباناً لمن يحب ، ولمن يعشق ، ولمن يدين له بكل الولاء .
حقا . إن بقاءنا كله إن هو إلا مجرّد "لحظة" يتحد فيها المرء مع من يعشق، وما عليه مطلقا إذا تجرّد التجرد كله لينال حظوة البقاء في هذه اللحظة الكاشفة. لحظة العمر التي ترفعه وتزيده رفعة، وتباركه وتزيده بركة، وتزكيه وتزيده تزكية. تلك اللحظة الخاصة المخلصة تصيب جوهر الحقيقة لتقدر الزمن حق قدره، لا .. بل لترتفع على الزمن كيما تتواصل فوق حدود الزمان والمكان في اتجاه السرمدية . لحظة الشهود القلبي والإدراك القلبي والإدراك الذوقي ؛ لحظة كشف الحقيقة في باطن الصوفي خالصة من غواشي الذَّرْكَشَات .
هذه اللحظة السامقة العليا لهي هي اللحظة التي يلزم للصوفي فيها إلقاء عَصَا التعطيل ؛ وليس للمرء أن يتعرف تلك اللحظة - وهو في هذا الرحاب العلوي - يعتمد على عكاز العقل ويتعكز على عصى التعطيل .إنما اللحظة التي ينفعل فيها الباطن الحي وتنشط فيها الحماسة الروحية إلى غايتها لهي هي اللحظة التي يبقى فيها الكيان الآدمي موصولاً بالملأ الأعلى من طريق التجربة ومواهب التوفيق. ومن هنا جاءت عباراتهم في الوجد والعشق والمحبة والغيرة والهمّة والإرادة والحقيقة والأنفاس والخطرات واللحظات والمشاهدة والمعاينة والمكاشفة والمكالمة؛ إشارات وأسراراً من فيض تلك اللحظات العلوية المباركة .
ألق عصاك .. فهذا جانب الوادي .. ففي الوقت الذي تدخُلُ فيه - صادقاً متبتِّلاً - وادي الأبرار ، أنت لستَ في حاجة إلى عكّاز العاطلين ! .