اعلم أن سبب العز الذي يعطيه الله لأوليائه هو حبه لهم ، فالعز نتيجة الحب ففي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :(إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَبْدَ نَادَى جِبْرِيلَ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحْبِبْهُ فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ فَيُنَادِي جِبْرِيلُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ ). [البخاري عن أبي هريرة]. وسبب حب الله للعبد هو هو زهده في الدنيا ففي حديث الترمذي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( ازهد في الدنيا يحبّك الله ، وازهد فيماعند الناس يحبّك الناس ) رواه ابن ماجة . ثم اعلم أن هذا العز الذي يعطيه الله لأوليائه لا يكون في بدايتهم ولا في أول أمرهم لئلا يفتنهم الخلق عن الوصول إلى الحق ، بل من لطف الله بهم وإغارته عليهم أن ينفر عنهم الخلق أو يسلطهم عليهم حتى يتخلصوا من رق الأشياء ، ويتحقّقوا بالوصول والتمكين ، فحينئذ إن شاء أظهر عزّهم لينفع بهم عباده ويهدي بهم من شاء من خلقه ، وإن شاء أخفاهم واستأثر بعزّهم حتى يقدموا عليه فينشر عزهم ويظهر مكانتهم في دار لا فناء لها.
(الطَّيُّ الْحَقِيقِيُّ أَنْ تَطْوِي مَسَافَةَ الدُّنْيَا عَنْكَ حَتَّى تَرَى الآَخِرَةَ أَقْرَبَ إِلَيْكَ مِنْكَ)
قلت الطي هو اللف والضم بحيث يصير الطويل قصيراً والكبير صغيراً يقال طويت الثوب أي ضممته وينقسم عند الصوفية إلى أربعة أقسام :- طي الزمان
- وطي المكان
- وطي الدنيا
- وطي النفوس
فأما طي الزمان فهو أن يقصر في موضع ويطول في موضع آخر كمن مر عليه سنون في موضع وفي موضع آخر ساعة أو يوم، كالرجل الذي خرج يغتسل في الفرات يوم الجمعة قرب الزوال فلما فرغ من غسله لم يجد ثيابه فسلك طريقاً حتى دخل مصر فتزوج فيها وولد له أولاد وبقي سبع سنين ثم ذهب يغتسل يوم الجمعة بنيل مصر فلما فرغ فإذا ثيابه الأولى فسلك طريقاً فإذا هو ببغداد قبل صلاة الجمعة من ذلك اليوم الذي خرج فيه والحكاية مطولة للفرغاني في شرح التائية .
وأما طي المكان فمثاله أن يكون بمكة مثلاً فإذا هو بغيرها من البلدان ، وهذا مشهور لأولياء الله ، قال الشيخ أبو العباس رضي الله عنه :" والله ما صار الأولياء من قاف إلى قاف حتى يلقوا رجلاً مثلنا فإذا لا قوه كان بغيتهم".
وأما طي الدنيا فهو أن تطوى عنك مسافتها بالزهد فيها والغيبة عنها وحصول اليقين التام في قلبك ، حتى يكون الآتي عندك واقعاً ، أو كالواقع .
وأما طي النفوس ، فهو بالغيبة في الله عنها ، ولذلك يتحقق الزوال وتمام الوصال ، وقد ذكره الشيخ بقوله :" فيما يأتي ليس الشأن أن تطوي لك الأرض فإذا أنت بمكة أو غيرها من البلدان إنما الشأن أن تطوى عنك أوصاف نفسك فإذا أنت عند ربك" وهذا هو الطي الحقيقي المعتبر عند المحققين ، لاطي الزمان أو المكان ، إذ قد يكون أستدراجاً أو مكراً أو تخيلاً وسحراً ، فالطي الحقيقي هو أن تطوي عنك مسافة الدنيا كلها ، حتى يكون الموت أقرب إليك من نفسك التي بين جنبيك.وحتى ترحل عنها بالكلية فلا تبقي فيك منها بقية ، هنالك ترحل إلى عالم الملكوت وتكشف لك أسرار الجبروت ، قيل لأبي محمد المرتعش :" أن فلاناً يمشي على الماء ، قال:" عندي من مكنه الله من مخالفة هواه فهو أعظم من المشي على الماء وفي الهواء" ومخالفة الهوى إنما تكون بالزهد في كل شيء ، والغيبة عن كل شيء ، وكان شيخنا رضي الله عنه يقول :" لا تفرحوا للفقير إذا رأيتموه يصلي كثيراً أو يذكر كثيراً أو يصوم كثيراً أو يعتزل كثيراً حتى تروه زهد في الدنيا ورحل عنها ولم يبق له التفات إليها فحينئذ يفرح به ولو قلت صلاته وصيامه وذكره وعزلته" قلت : وكذلك قال في التنوير :" لا تدل على فهم العبد كثرة عمله ولا مداومته على ورده وإنما يدل على نوره وفهمه غناه بربه وأنحياشه إليه بقلبه وتحرره من رق الطمع وتحليه بحلية الورع وبذلك تحسن الأعمال وتزكوا الأحوال" فما قاله شيخنا صحيح ، لكن لا يفهمه إلا أهل الفن من أهل الذوق إذ لا يجتمع مجاهدة ومشاهدة وإنما تكون المجاهدة أولاً فإذا حصلت المشاهدة في الباطن ركدت الجوارح في الظاهر وما بقي إلا فكرة أو نظرة والأدب مع الحضرة ، وربما يعترض على الشيخ من لم يعرف مقصوده من جهلة علم الطريق وبالله التوفيق.
وإنما يتحقق طي مسافة الدنيا بتحقق الزهد فيها ، ولا يتحقق الزهد فيها إلا برفع الهمة عن الخلق والتعلق بالملك الحق، وبالإياس مما في أيدي الناس ، كما أبان ذلك بقوله:
(الْعَطَاءُ مِنَ الْخَلْقِ حِرْمَانٌ ، وَالْمَنْعُ مِنَ اللهِ إِحْسَانٌ)
إنما كان العطاء من الخلق حرماناً لثلاثة أوجه :
أحدها : ما في ذلك من حظها وفرحها ، والتوصل إلى شهواتها وحظوظها ، وفي ذلك موت القلب وقسوته
الثاني :ما في ذلك من نقص الدرجات والغض عن كمال المراتب والمقامات ، ولذلك ترك الأكابر التمتع بالشهوات لقوله تعالى : (أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا) وقد يتعرض المريد للسؤال لأجل موت نفسه وحياة روحه ، فإذا كثر عليه العطاء من الخلق فرحت النفس وأنست فلا تموت به سريعاً ، بخلاف ما إذا واجهه المنع فإنها تموت سريعاً ، إذ لاحظ لها فيه . فالجهاد الذي لاغنيمة فيه أعظم من الجهاد الذي فيه الغنيمة ، فقد ورد في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : إذا خرجت طائفة للغزو فجاهدوا وغنموا فقد تعجلوا ثلثي أجرهم وإذا لم يغنموا رجعوا بأجرهم كاملاً " أو كما قال صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث :ما في ذلك من الركون إليهم وميل القلب بالمحبة لهم ، إذ النفس مجبولة على حب من أحسن إليها ، فتسترق لهم ، وتكون أسيرة في أيديهم ، وفي وصية سيدنا علي كرم الله وجهه :"لا تجعل بينك وبين الله منعماً وعد نعمة غيره عليك مغرماً".
وقال الشيخ مولاي عبد السلام بن مشيش رضي الله عنه لأبي الحسن الشاذلي رضي الله عنه :" يا أبا الحسن اهرب من خير الناس أكثر من أن تهرب من شرهم ، فإن خيرهم يصيبك في قلبك وشرهم يصيبك في بدنك ، ولإن تصاب في بدنك خير من أن تصاب في قلبك ، ولعدو تصل به إلى ربك خير من حبيب يقطعك عن ربك" ولأجل هذا المعنى قال عليه السلام :(إِذا أَسْدَى إِلَيْكُمْ أَحَدٌ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ) أي لتسقطوا منته عليكم وتقطعوا رقبته لكم والله تعالى أعلم.
وإنما كان المنع من الله أحساناً لوجهين :
أحدهما : ما تقدم من أن الله سبحانه ما منعك بخلا ولا عجزاً ، وإنما هو حسن نظرٍ لك ، إذ لعل ما طلبته لا يليق بحالك في الوقت وأخره لوقت هو أولى لك وأحسن ، أو ادخر لك ذلك ليوم فقرك
الثاني : ما في ذلك من دوام الوقوف ببابه واللياذ بجنابه وفي ذلك غاية شرفك ورفع لقدرك ، وفي الحديث : (إن العبد يدعو الله وهو يحبه فيقول الله عز وجل: يا جبريل اقض لعبدي هذا حاجته وأخرها فإني أحب أن أسمع صوته، وإن العبد ليدعو الله وهو يبغضه فيقول الله عز وجل: يا جبريل اقض لعبدي هذا حاجته وعجلها فإني أكره أن أسمع صوته) ؛ ما ذكره الشيخ من كون العطاء من الخلق حرماناً ، إنما هو باعتبار السائرين أو بإعتبار الزهاد والعباد ، وأما الواصلون إلى الله المتمكنون مع الله ، فقد تولاهم الحق وغيّبهم عن شهود الخلق ، فهم يتصرفون بالله ، يأخذون من الله ، ويدفعون بالله ،ولا يرون في الوجود إلا الله ، فلا يرون العطاء إلا من الله ، ولا يرون الخلق البتة ، إلا ما يشهدون فيهم من واسطة الحكمة . وبالله التوفيق ولا حول ولا قوة إلا بالله .