صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما ، الحمد لله فاتح أقفال القلوب بذكره ، وكاشف أستار العيوب ببرّه ، ومطهّر السرائر لإبداع سرّه ، ومُظهر العجائب من عالم أمره ، ورافع أعلام الزيادة للقائم بشكره ، أحمده على أن جعلني من أهل توحيده، وأشكره طالباً لفضله ومزيده وأصلي على سيدنا محمد أشرف عبيده ، وعلى آله وأصحابه الحائزين لطويل الفضل ومديده .
وبعد :
فإنّ ذكر الله تعالى مفتاح الفلاح ، ومصباح الأرواح ، بفضل الله الكريم الفتّاح ن وهو العمدة في الطريق ،ومعول أهل التحقيق...
في ماهيّة الذكر وبيانه
الذكر هو التخلص من الغفلة والنسيان بدوام حضور القلب مع الحق .
وقيل : تريد اسم المذكور بالقلب واللسان . وسواء فى ذلك ذكر الله أو صفة من صفاته ، أو حكم من أحكامه ، أو فعل من أفعاله ، أو استدلال على شئ من ذلك ، أو دعاء ، أو ذكر رسله، أو أنبيائه ، أو اؤليائه ، أو من أنتسب إليه ، أو تقرب إليه بوجه من الوجوه ، أو سبب من الأسباب ، أو فعل من الأفعال : بنحو قراءة ، أو ذكر ، أو شعر ، او غناء أو محاضرة ، او حكاية . فالمتكلم ذاكر ، والمتفقه ذاكر، والمدراس ذاكر ، والمفتى ذاكر ، والواعظ ذاكر ، والمتفكر فى عظمة الله تعالى وجلاله وجبروته وآياته فى أرضه وسمواته ذاكر ، والممتثل ما أمر الله به والمنتهى عما نُهِىَ عنه ذاكر .
والذاكر قد يكون باللسان وقد يكون بالجنان ، وقد يكون بأعضاء الإنسان ، وقد يكون بالإعلان والإجهار ، والجامع لذلك كله ذاكر كامل .
فذكر اللسان هو ذكر الحروف بلاحضور ، وهو الذكر الظاهر وله فضل عظيم شهدت به الآيات والأخبار والآثار . فمنه المقيد بالزمان ، أو بالمكان . ومنه المطلق.
فالمقيد كالذكر فى الصلاة وعقبها ، والحج ، وقيل النوم ، وبعد اليقظة ، وقبل الأكل ، وعند ركوب الدابة ، وطرفى النهار ، وغير ذلك .
والمطلق مالا يتقيد بزمان ولا مكان ولا وقت ولا حال . فمنه ماهو ثناء على الله كما فى واحدة من هذه الكلمات وهى : سبحان ، والحمدلله ، ولا إله إلا الله ، والله اكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم . ومنه ماهو ذكر فيه دعاء مثل: (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ) ، أومناجاة ، وكذلك : اللهم صلِّ على سيدنا محمد ، وهو أشد تاثيراً فى قلب المُبتدئ من الذكر الذى لا يتضمن المناجاة ، لأن المناجى يشعر قلبه بقرب من يناجيه ، وهو مما يؤثر فى قلبه ويلبسه الخشية ، ومنه ما هو ذكر فيه رعاية أو طلب دنيوى ، او اخرى . فالرعاية مثل قولك : الله معي ، الله ناظر إلي ، الله يراني ، فإنه فيه رعاية لمصلحة القلب ، فانه ذكر يستعمل لتقوية الحضور مع الله وحفظ الأدب معه ، والتحرز من الغفلة والاعتصام من الشيطان الرجيم ، وحضور القلب مع العبادات .
وما من ذكر إلا وله نتيجة تخصّه
فأيّ ذكر اشتغلت به أعطاك ما في فوقه ، والذكر مع الاستعداد هو الداعي إلى الفتح ، ولكن بما يناسب الذاكر . قال الإمام الغزالي : الذكر حقيقة هو استيلاء المذكور على القلب وانمحاء الذكر وخفاءه ، قال : لكن له ثلاثة قشور بعضها أقرب إلى اللب من البعض واللب وراء القشور الثلاث ، وإنما فضل القشور لكونها طريقاً إليه ، فالقشر الأعلى ذكر اللسان فقط ، ولا يزال الذاكر يوالي الذكر بلسانه و يتكلف إحضار القلب معه، إذ القلب يحتاج إلى موافقته حتى يحضر مع الذكر. و لو تُرِكَ وطَبْعِهِ لاسترسل في أودية الأفكار، إلى أن يشارك القلب اللسان ويحرق نور القلب الشهوات والشياطين ، و يستولي ذكره ، فيضعف ذكر اللسان عند ذلك و تمتليء الجوارح والجوانح بالأنوار و يتطهر من الأغيار، و ينقطع الوسواس ولا يسكن بساحته الخناس ، و يصير محلًا للواردات ، ومرآة صقيلة للتجليات ، و المعارف الإلهيات . وإذا سرى الذكر إلى القلب وانتشر في الجوارح فذكر الله كل عضو بحسب حاله .