قال سيدي أبو مدين الغوث رضي الله عنه :
(الحمية في الأبدان ترك المخالفة بالجوارح , والحمية في القلوب ترك الركون إلى الأغيار ، و الحمية في النفوس ترك الدعاوي)
السالك كالمريض ، واحتياجه إلى الحمية أشدُّ من احتياجه إلى الدواء ؛ فالحمية رأس كل دواء ، فما ينفع دواء الطاعات مع وجود المعاصي ، وعدم الحمية من الخطيئات ، ولكل محلٍّ من السالك حمية تخصه .
فالحمية في الأبدان ترك المخالفة بالجوارح ؛ فلذلك قيل : الإرادة حفظ الحواس ، والظّن بالأنفاس ، فيحمي السالك لسانه عن النطق بما لا يعنيه ، وسمعه عن استماع ما لايفيده فائدة تقرِّبه إلى مولاه من أمور دنياه وأخراه ، ويحمي بصره عن النظر إلى المحرّمات ، وهكذا سائر جوارحه لا يشغلها إلاّ بما خُلقت لأجله حتى يحوز مقام الشكر ، ويستوجب المزيد ، ويصير من جملة العبيد ، فيجد فيه حينئذٍ دواء الطاعات ، ويصير من الأصحاء ، ويتمكّن من الخدمة ، وسائر الأوقات .
والحمية في القلوب ترك الركون إلى الأغيار ؛ وهذه الحمية هي قطب دائرة هذا المدار ، فمَن لم يتقنها فقد حلَّ به الداء العضال ، ومن لم يرسخ فيها فقد انفصل من حيث يظهر الاتصال ، فإذا حلّت بك شدّة أيُّها الأخ ؛ فلا ترجع إلى حلِّها إلاّ إلى مولاك ، ولا تفرج بها على باب سواه ، فتهلك أشدَّ الهلاك ، وأنشِد بلسان حالِك ، وتَرنّم في هذه المسالك هذه الأبيات :
أنا لا أعرف إلا أنتم
فأجيزوني بعطاءٍ منكم
كلُّ شخصٍ لعزيزٍ ينتمي
وعزيزي لَيس إلاّ أنتُمْ
قال النبي صلى الله عليه وسلّم لشخص : (إذا قمت في صلاتك فصلِّ صلاة مُودِّع ، ولا تتكلَّم بكلام تعذر فهمه ، واجمع الإياس مما في أيدي الناس) .
فانظر إلى ما ختم به صلى الله عليه وسلم هذه الموعظة من قوله :(واجمع الإياس مما في أيدي الناس) ، تعلمُ أن السعادة العظمى في عدم الركون إلى الناس ، واليأس مما في أيديهم ، واسمع أيضاً ما قاله صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنه :( يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ) .
تأمّل هذا الكلام من نبيّك صلى الله عليه وسلم تجد الكيمياء حاضرة بين يديك ، والكنوز مدفونة في ساحتك ، إنْ فهمت وعملتَ بما أُلقي إليك ؛ فلا تسكن بقلبك إلاّ إليه ، ولا تنطرح بذلّتك وانكسارك إلاّ بين يديه ، فالحمية في النفوس ترك الدعوى ؛ إذ الدعوى لها هو السمُّ القاتل ، فماذا ينفع ترياق الطاعات ، وقد أصيبت القاتل ؟ إذ دعوى النفس ينشأ من عجبها ، وهو أشدُّ المهلكات .
كما شهد بذلك سيد الكائنات حيث قال صلى الله عليه وسلم :(ثلاث منجيات وثلاث مهلكات ، فأماالمنجيات : فتقوى الله في السرّؤ والعلانية ، والقول بالحق في الرِّضا والسخط ، والقصد في الغنى والفقر ، وأما المهلكات : فهوى متبع ، وشح مُطاع ، وإعجاب المرء بنفسه ، وهي أشدهنَّ) .
فمن كان عنده أشدُّ المهلكات كيف يتوقّع الشفاء من أدوية الطاعات ؟ فلذلك قال الشيخ رضي الله عنه :"من مات ولم يتوغّل في علمنا هذا مات ، وهو مُصرٌّ على الكبائر" ولقد صدق فيما قال .
فأي شخص يا أخي يصوم ولا يعجب بصومه ، وأي شحص يصلّي ولا يعجب بصلاته ، وهكذا سائر الطاعات إلاّ أن تحل عليه عناية مولاه بمعونة آداب الخدمة من مجالسة أطباء القلوب ، وحلول عناياتهم عليه حتى يمحق العجب الذي حلّ به من تلك الطاعات ، ولا يعجب بعد ذلك إلاّ بفضل مولاه .
كما قيل في الحكم العطائية : (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ) .
فلا تفرح يا أخي ، ولا تعجب إلا بنَواله ، ولا تصحب إلاّ من يُعلّمك العلوم التي تُقَرِّبُكَ إلى حضرة كماله .