قال الشيخ مولانا عبد السلام لتلميذه أبي الحسَن:(حدّد بصَر الإيمان تجدِ الله في كلِّ شيءٍ، وعندَ كل شيءٍ، ومع كل شيءٍ، وقبلَ كل شيءٍ، وبعد كل شيءٍ، وفوقَ كل شيءٍ، وتحت كل شيءٍ، وقريباً من كل شيء، ومحيطاً بكل شيء، بقُربٍ هو وصُفه، وبإِحاطَةٍ هي نعتُهُ، وعُدَّ عن الظرفيّةِ والحدودِ، وعن الأماكنِ والجهاتِ، وعن الصحبة والقرْب في المسافاتِ، وعن الدَّور بالمخلوقات، وامْحَق الكلّ بوصْفه الأول والآخر، والظاهر والباطن، وهُوَ هُوَ هو. كان اللهَ ولا شيءَ معهُ، وهو الآن على ما عليه كان).
وقوله : بحاءٍ مهمَلة ، أي صِف ، وقوله : وامحقْ ، هو بالميم من المحق ؛ وهو المَحقُ والإضْمحلالُ ، وباقي كلامِه ظاهرٌ عند أهلِ الأذواقِ ، نفعنا الله بذكرهم ، وحرطنا في سِلكهم آمين .
ثم قال رضي الله عنه :"وفِيهِ" : أيْ في سَمَا قلبهِ الصافِي "ارْتَقَتْ" : أي ارتَفعَتْ وأشرقَتْ شموسُ "الحَقائِقِ" العرفانيّة ؛ والأسرار الربانيّة ، والعلوم اللَّدُنية . شبّه قلبَهُ عليه الصلاة والسّلام بسَماءٍ صاحِيةٍ . أشرَقت فيها شموسٌ كثيرة ، فامتلأَتْ بالأنوارِ , ولذلك جمع الحقيقة ، وإن كانت في الأصل واحدة ؛ لأنه عليه الصلاة والسلام ، اجتمع فيه من الحقائق ، ما افترقَ في غيره . فكان باطِنه عليه الصلاة والسلام معموراً بأنوارِ الحقائق ، وظاهرُهُ معموراً بالشَّرائع ، فكان عليه الصلاة والسلام ، أعطاه الله القوة منَ الجهَتَين : ظاهرُهُ معموراً بالشّرائع ، وباطنه معموراً بالحقائق . ولا يكون هذا إلاَّ له عليه الصلاة والسلام ، أو لمَن كان على قَدَمِهِ صلى الله عليه وسلّم ، ممَّن أهَّلَهُ الله للاقتداء بِهِ . ويكون هذا بعد التّمكين ، ولقد سمعت شيح شيخنا مولاي العربي رضي الله عنه يقول : لا تجتمع مجاهدة ومشاهدة ، إلاّ في رجل واحدٍ ، على قدمِهِ صلى الله عليه وسلّم ، واعترض قول الشيخ اليوسي في بعض أدعيته : وزيّن الظاهر بالمجاهدة ، وزيّن الباطن بالمشاهدة . إذ لا مجاهدة في الظاهر ، قبل مشاهدة الباطنِ ، كما تقدّم . وقال شيخ شيوخنا سيدي علي الجمل رضي الله عنه ك الوليُّ الكامل ؛ هو الذي يكون ظاهره معموراً بالشّرائعِ ، وباطنه معموراً بالحقائق . قلتُ : وهذا قليلٌ . وعلى تقدير وقوعهِ : تكون عبادة الله معمولاً فيها القدرة ، فلا مجاهدة له فيها البتَّة . والغالب على أهل الباطنِ خفاء أعمالهم ؛ لأنها قلبيّة : بين فكرَةٍ ونَظرَةٍ ، وشهودٍ وعبرَةٍ ، لا يزيدون على الفرائض إلاّ ما تيسّرَ . ثم يستغرقونَ في الفكرة والنظرة التي هي أفضل العبادات . ساعة منها تَفْضُل عبادة سنَةٍ ، كما في الحديث . وفي رواية سَبعين سنَة . والجمعُ بينهما ، أن الأول في فكرة أهل الحجابِ ، والثاني في فِكرة أهل العرفان . وفيه قال الشاعرُ :
كلُّ وقْتٍ منْ حَبيبي قدْرُهُ كألْفِ حَجَّةٍ
أي : سنة . وقال أبو العباس المُرسي رضي الله عنه : قومٌ أقامهم الحقُّ لخدمته ، وقومٌ اختصّهُم لمحبّته .(كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ ۚ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا). فأهل المحبّة ، هم أهل الفكرة ، وأهلُ الخدمَة ، هم أهل العبادة الظاهرة . أو تقول : أهلُ المحبّة هم أهلُ العبادة القلبيّة . وأهل . وأهلُ الخدمةِ ؛ هم أهل الالعبادة الخارجيّة . أو تقول : أهلُ المحبّة ، هم أهلُ العبادة المعنويّة ، وأهل الخدمة هم أهلُ العبادة الحسيّة . ولحاصلُ : أن عمل الشريعة ، لابدّ له أن يُعتبرَ الحقيقة . والحقيقة لابدّ أن تُعتبرَ الشريعة . إلاّ ما لابدّ منهُ . ومن قال خلافَ هذا ؛ فهو جاهل بعِلم الباطنِ . وقد رأيت في قوت القلوب ؛ لأبي طالب المكّي ، رضي الله عنه أن بعض العارفين قال لهُ المَلَكث الذي يَكتُبُ أعمالَهُ : يا سيّدي ن فرِّحنَا بشيءٍ من أعمالكَ ، أي ظَهِّرهُ لنا ، نتقرّبُ بهِ إلى ربِّنا . فقال له : أمَا يَكفيكَ الصلواتُ الخَمْسُ ؛ وانظر قول الشاعر وهو الحلاّج :
قُلوبُ العاشِقينَ لَها عُيونٌ
تَرى ما لا يُرى للنّاظِرينَ
وَأَلسِنَةٌ بِأَسرارٍ تُناجي
تَغيبُ عَنِ الكِرامِ الكاتِبينَ
وَأَجنِحَةٌ تَطيرُ بغَيرِ ريشٍ
إِلى مَلَكوتِ رِبِّ العالِمينَ
وقد ذيّلناه ببيتينِ آخريْنِ فقلتُ :
وأفئِدةٌ تَهيمُ بعِشقِ وُجْدٍ
إلى جبرُوتِ ذي حقٍّ يقينا
فإنْ أرَدتَ دَرْكَ ذي المَعانِي
فَبدِّل رُوحَكَ قليلاً فينَا