وقد سمعت شيخ شيخنا مولاي العربي يقول : لقيني عالمان من علماء فاس بمسجد القرويين . فقالا لي كيف يقول أبو العباس المرسي :" ما غابَ عنّي رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفَة عَيْنِ" كيف يكون ذلك ؟ فقال رضي الله عنه :قلتُ لهم :"يا هؤلاء ، أولئك السادة ، كانت أفكارهم في عالَم الملكوت ، وهو عالَم الأرواح ، وفيه أرواح الأنبياء وغَيرهم ، ولم تكن أفكارُهُم في عالَم الأشباح ، وهو عاَلمُ المُلك . قال : ثم قلت لهم : وهل تدرون أين هو عالَمُ الأرواح ؟ ، عالَم الأرواح هو حيث عالم الأشباح ، ثم قمت عنهم".
قلت : الآن المحل واحد ، وإنما تختلف النظرة ، فأهل البصيرة لا يروْنَ إلا الملكوت ؛ وهو عالم الأرواح ، وأهلُ البصر ، لا يرونَ إلا المُلْك وهو عالَمُ الأشباح . وقد أشار إلى ذلك الشيخ بقوله : "فرِيَاضُ" جَمع رَوْضٍ ؛ وهو محلّ النّزهة ، لاشتماله على نُوّارٍ وأزهارٍ ، ومياه وخُضرة . "المَلَكُوتِ" هو في اصطلاح الصوفيّة ، ما يُدرَكُ بالبَصيرة والعلم . كما أنّ المُلك ما يُدركُ بالبصر والوهم . أو تقول الملكوت : مَدرَكُ أهل الجَمع . والمُلكُ : مَدرَكُ أهل الفرقِ . أو تقول : المُلكُ ما ظهرَ . والملَكوت ما بَطَنَ . فالمَلكوت : مَدرَك أهل الشهود والعيان . والمُلكُ : مَدرَكُ أهل الدّليل والبرهان . "بِزَهْرِ"جمْع زَهرَة ؛ وهي النّوار التي تُفتحُ في زمان الربيع . "جَمَالِهِ" صلى الله عليه وسلّم "مُونِقَةٌ" أي معجبَة ، ورياض الملكوت ، من إضافة المشبَّه به للمشبَّهِ . شبَّهَ الملكوت الذي هو محلُّ نزهةِ العارفين برِياضٍ مشتملةٍ على أزهارٍ ونوّارٍ وخُضرةٍ وجمالٍ ، لا يتمُّ جمالُها ، ولا يظهرُ نوارها إلاّ بالتباع الشريعة المحمديّة . وإلا كانت حقيقة ظلمانية ، فالكَون الذي هو الملك كلّه ظلمة . وإنما أناره ظهور الحق فيه . فصار كلُّه نوراً . ومن لم يَدرك نور الحقّ فيه ، صار في حقّه ظلمة . وكان مَلْكاً. ولا يمكن أن يظهر الحق فيه إلاّ بالسلوك على الشريعة المحمديّة على يد شيخ عارف بدقائقها وأسرارها وحقائقها الظاهرة والباطنة. وإلا بقي مع ظُلمة الأكوان ، وسجن الأوهام . "وَحِيَاضُ" جَمع حَوْضٍ ؛ وهو محلُّ اجتماع الماءِ كالصهريج . "الجَبَرُوتِ" : وهو ما يُدرَكُ بالعقلِ والفهمِ ، أو بالبصيرةِ والعلمِ . لكن في ثاني حالٍ ، أي بعد معرفة الملكوت .
والحاصلُ : أنّ المُلكَ والمَلكوتَ والجبروتَ محلّها واحدٌ ؛ وهو الوجود الأصلي ؛ والفرعي ، لكن تختلف التسمية باختلاف النظرة . وتختلف النظرة باختلاف الترقِّي في المعرفة . فمن نظرَ الكون ورآهُ كوناً مستقلاًّ بنفسِه قائماً بقدرة الله . ولم يُكشَف له عن
رُؤية صانعه فيه ، سُمّيَ في حقِّه مُلْكاً ؛ لظهور تصرُّف القُدرة فيه ، ووجوده ؛ وهما لا حقيقة لهما عند المحقِّقين . ولذلك لم يُدرِكْهُ الشيخ رضي الله عنه . وكان صاحب هذه الرُؤية محجوباً لوقوفِه مع الوَهم ، ومن فتح الله بصيرَته ، ونفذَ إلى شهودِ المُكوِّن في الكون ، أو قبلَه ، سُمّيَ في حقِّه مَلكوتاً . وكان صاحب هذه الرَّؤية عارفاً مفتوحاً عليهِ . فإذا نفذت بصيرَتُه إلى شهود أصْل الأُصول والفُروع ؛ وهي العظمة الأزلية اللطيفة ، قبل أن تتجلّى وتُعرف . سُمّي ذلك جبروتاً ، ومن نظرَ إلى نفوذ الرَّحمة السابقة ، في الأشياء كلّها ، وهي نعمة الإيجاد ونعمة الإمداد ، سُمي ذلك رَحَمُوتاً . فصارت العوالم أربعة : مُلكاً وملكوتاً ، وجبروتاً ، ورَحَمُوتاً .