في بَيَان رُجوع الإنسَان إِلى وطَنِهِ الأصليّ
فالإنسان على نوعين : جسمانيّ وروحانيّ .
فالجسمانيّ إنسان عامّ ، والرّوحاني خاصّ مُحرِم إلى وطنه وهو القربة .
فرجوع الإنسان العام إلى وطنه هو الرجوع إلى الدرجات، بسبب عمل علم الشريعة والطريقة والمعرفة إذا عمل عملا صالحاً بلا رياء ولا سمعة؛ لأن الدرجات ثلاث طبقات :
أحدها : الجنة في عالم الملك، وهي جنة المأوى.
والثاني : الجنة في عالم الملكوت ، وهي جنة النعيم .
والثالث : الجنّة في عالم الجبروت ، وهي جنّة الفردوس .
وهذه نعم الجسمانية، فلا يصل الجسم إلى هذه العوالم إلا بثلاثة علوم ؛ وهي علم الشريعة وعلم الطريقة وعلم المعرفة كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «الحِكمةُ الجامِعَةُ مَعرفَةُ الحَقُّ، والعَملُ بِها مَعرِفَةُ البَاطِن)''. وكما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه". وكما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :"مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ وخالَفَها فَقدْ عرَفَ رَبَّهُ وتابَعهُ" .
ورجوع الإنسان الخاص ووصوله إلى وطنه وهو القربة بعلم الحقيقة، وهو التوحيد في عالم اللاهوت في عالم خيالته في الدنيا، بسبب عبادته سواء كان نائماً أو غيره ، بل إذا نام الجسد وجد القلب فرصة فيذهب إلى وطنه الأصلي إما بكليّته ، أو بجزئيّته - كما قال الله تعالى : (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ۖ فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى)[الزُّمَر : الآية 42]ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «نومُ العالم خيرٌ من عِبادةِ الجاهلِ" - بعد حياة القلب بنورالتوحيد، وملازمة أسماء التوحيد بلسان السّر بغير حروف ولا صوت كما قال الله تعالى في الحديث القدسي: "الإنسان سرّي وأنا سرَّة"، وقال الله تعالى في الحديث القدسي: "إن علم الباطن هو سرّ من سرّي، أجّعله فى قلب عبدي، ولا يقف عليه أحد غيري".
والمراد من وجود الإنسان هو علم التفكر كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «تَفكُّر ساعة خيرٌ من عبادةِ سبعينَ سنة. وهو علم الفرقان هو التوحيد، وبه يصل العارف إلى معروفه ومحبوبه ونتيجة علم العارف الطيران بالرّوحانيّة إلى عالم القربة . فالعارف طيّار إلى القربة والعابد سيّار إلى الجنة . قال بعضهم في حقه : [ الوافر]
قُلوبُ العارفينَ لَها عُيونٌ
تَرى ما لا يَراهُ الناظِرونَ
وَأَجنِحَةٌ تَطيرُ بغَيرِ ريشٍ
إِلى مَلَكوتِ رِبِّ العالِمينَ
فهذا الطيران في باطن العارف هو الإنسان الحقيقي، وهو حبيب الله عز وجل ومحرمه وعروسه كما قال أبو يزيد البسطامى رحمه الله تعالى : «أولياء الله هم عرائسه ، لا يرى العرائس إلا المحارم ، فهم مخدرون عنده فى حجاب الأنس، ولا يراهم أحد في الدّنيا ولا في الآخرة) غير الله تعالى كما قال الله تعالى في الحديث القدسيّ :"أوليائي تَحْتَ قِبَائي لا يَعرِفُهُم غَيْرِي" ولا يرى الناس في الظاهر من العروس إلا ظاهر زينتها.
قال يحيى بن معاذ الرّازي رحمه الله تعالى: (الولي ريحان الله تعالى فى أرضه، يشمّه الصديقون، فتصل رائحته إلى قلوبهم ؛ فيشتاقون به إلى مولاهم ، وتزداد عبادتهم على تفاوت أخلاقهم)، بحسب الفناء ؛ لأن زيادة القربة بزيادة فناء الفانى .
فالولي هو الفاني في حاله ، والباقي في مشاهدة الحق ، ولم يكن له عن نفسه اختيار ، ولا له مع أحد غير الله قرار.
والولي من أيّده بالكرامات، وغيّبت عنه لأنه لا يرى الإفشاء ؛ فإن إفشاء سرّ الرّبوبيّة كفر كما ذكر صاحب المرصاد رحمه الله تعالى: أصحاب الكرامات كلهم محجوبون، والكرامة حيض الرّجال، فالولي له ألف مقام، أوله باب الكرامة من جاوز منها نال الباقي .