آخر الأخبار

جاري التحميل ...

سر الأسرار ومظهر الأنوار فيما يحتاج إليه الأبرار لعبد القادر الجيلاني - 4

الفصل الثاني 
في بيان ردّ الإنسان إلى أسفل السّافلين 

لما خلق الله تعالى الروح القدسي في أحسن تقويم في عالم اللاهوت ثم أراد أن يرده إلى الأسفل لزيادة الأنسية والقربيّة كما قال الله تعالى : ﴿ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ ﴾ (سورة القمر) ردّه أولاً إلى عالم الجبروت , ومعه بِذَرُ التوحيد فزرع من نورانيته في ذلك العالم , وألبس الروح القدسي الكسوة من ذلك العالم , وكذا إلى عالم الملكوت , ثم إلى عالم المُلك , فخلق له منه كسوة عنصرية كي لا يحترق به عالم المُلك يعني هذا الجسد الكثيف فيسمّى باعتبار الكسوة الجبروتية روحاً سلطانياً , وباعتبار الملكوتية روحاً سيرانيّاً روانيّاً , وباعتبار الملكيّة روحاً جسمانياً. 

والمقصود من مجيئه إلى الأسفل كسب زيادة قربة ودرجة بواسطة القلب والقالب , فيزرع بذر التوحيد في أرض القلب , فتنبت في أرض القلب شجرة التوحيد أصلها ثابت في هواء الّرّ , وتثمر منه ثمرة التوحيد لرضاء الله تعالى . وزرع بذر الشريعة في أرض القالب لتنبت فيها شجرة الشريعة , وتثمر منه ثمرة الدّرجة . 

فأمر الله تعالى الأرواح كلها بدخول الجسد, فقسم لكل واحد منها موضعاً منه . فموضع الرّوح الجسماني في الجسد ما بين اللحم والدم . وموضع الرّوح الرّوانّي القلب . وموضع الرّوح السلطاني الفؤاد السلطانّي الفؤاد . وموضع الرّوح القدسي السّرّ .
 
فلكل واحد منها حانوت في بلد الوجود, وله أمتعة وربح وتجارة لن تبور . فينبغي لكل إنسان أن يعرف معاملته في وجوده , لأنَّ ما يُحصَّل هنا يُعلَّق في عنقه كما قال الله تعالى : ﴿ أَفَلاَ يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ ﴾ (سورة العاديات) , وكما قال الله تعالى : ﴿ وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِِرَهُ فِي عُنُقِهِ .. ﴾ سورة الإسراء. 

الفصل الثالث 
في بيان حوانيت الأرواح في الأجساد 

فحانوت الرّوح الجسماني البدن مع الجوارح الظّاهرة , ومتاعه الشريعة , ومعاملته العمل بالمفروضات التي أمر الله تعالى بها من الأحكام الظّاهرة بغير شركة كما قال الله تعالى : .. وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاَ سورة الكهف , وكما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( إنَّ الله وتر يحبُّ الوتر ) . والمراد منه العمل بلا رياء ولا سمعة . 

وربحه في الدنيا الولاية والمكاشفة والمشاهدة في عالم المُلك من تحت الثرى إلى السّماء , ومثله الكرامة الكونية من المراتب الرّهبانيّة كالمشي على الماء , والطيران في الهواء , وطيّ المكان , والسّمع من البعيد , والرؤية في سرّ البدن , ونحو ذلك . 

وأمّا ربحه في الآخرة فهو الجنة والحور والقصور والغلمان والشّراب وسائر النّعم ومسكنه في الجنّة الأولى وهي جنّة المأوى . 
وحانوت الروح الروانّي القلب , ومتاعه علم الطريقة , ومعاملته اشتغاله بالأسماء الأربعة الأولى من أصول الأسماء الأثنى عشر كما قال الله تعالى : وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا .. سورة الأعراف وهذه إشارة إلى أنَّ الأسماء محل الشّغل وهو علم الباطن , والمعرفة نتيجة أسماء التوحيد كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم : ( إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة ) . 

والمراد من الإحصاء أن يكون منعوتاً بها , ومتخلّقاً بأخلاقها , وهذه الأسماء الاثني عشر أصول أسماء الله تعالى على عدد حروف لا إله إلا الله , فحروف هذه الكلمة اثنا عشر حرفاً , فأثبت الله تعالى في أطوار القلوب لكلّ حرف اسماً واحداً , ولكلّ عالم ثلاثة أسماء فيثبّت الله تعالى بها قلوب المحسنين كما قال الله تعالى : (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَة) (سورة إبراهيم) .
 
وأنزل عليهم سكينة الأنس , وأنبت فيها شجرة التوحيد , أصلها ثابت في الأرض السّابعة , بل في تحت الثّرى , وفرعها في السّماء السّابعة , بل إلى ما فوق العرش كما قال الله تعالى : ( كَشَجَرَةٍ طَيِبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَآءِ ) (سورة إبراهيم). 

وربحه حياة القلب . ومشاهدته في عالم الملكوت مثل مشاهدة الجنان وأهلها وأنوارها وملائكتها, ومثل نطق الباطن بلسانه بملاحظة أسماء الباطن بلا نطق ولا حرف . ومسكنه في الآخرة الجنّة الثانية جنة النّعيم . 

وحانوت الرّوح السّلطانّي الفؤاد , ومتاعه المعرفة , ومعاملته بملازمة الأسماء الأربعة من المتوسطات بلسان الجنان كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( العلم علمان : علم باللسان , وذلك حجة الله تعالى على ابن آدم . وعلم بالجنان , فذلك العلم النافع ) , لأن أكثر منافع العلم في هذه الدائرة . وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( إنَّ للقرآن ظهراً وبطناً , ولبطنه بطناً , إلى سبعة أبطن ) , وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( إنَّ الله أنزل القرآن على عشرة أبطن ) فكل ما هو أبطن فهو أنفع وأربح لأنه مِفَنٌ . 

وهذه الأسماء بمنزلة اثنتي عشرة عيناً انفجرت من ضربٍ بعصى موسى عليه الصلاة والسلام كما قال الله تعالى : (وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ ..) (سورة البقرة) . 

فعلم الظّاهر كالماء المُطَهَّريّ العارضّي . وعلم الباطن كالماء العينّي الأصلّي , وهو الأنفع من الأول ولا ينقطع كما قال الله تعالى :(وَآيَةٌ لَّهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ).

أخرج الله تعالى من الأرض الآفاق حباً هو قوت الحيوانات النّفسانية , وأخرج من الأرض الأنفسية حباً وهو قوت الأرواح الرّوحانية كما قال رسول الله صلى عليه وآله وسلم :(من أخلص لله تعالى أربعين صباحاً ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه).

وأما ربحه فرؤية عكس جمال الله تعالى كما قال الله تعالى : مَا كَذّبْ الفُؤاد مَا رَأى سورة النجم , وكما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : (المؤمن مرآة المؤمن) . والمراد من المؤمن الأول قلب العبد المؤمن . ومن الثاني هو الله .. المُّؤْمِن المُهَيمِن العَزِيز الْجَبَّار المُتَكَبِر .. سورة الحشر , قال صاحب المرصاد رحمه الله تعالى : ومسكن هذه الطائفة في الجنّة الثالثة وهي جنّة الفردوس . 

وحانوت الرّوح القدسيّ في السّرّ كما قال الله تعالى في الحديث القدسيّ : ( الإنسان سرِّي وأنا سِرُّهْ ) . ومتاعه علم الحقيقة : وهو علم التوحيد . ومعاملته ملازمة أسماء التوحيد , وهي الأربعة الأخيرة بلسان السّرّ بلا نطق كما قال الله تعالى : وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى سورة طه ولا يطلع عليه غير الله تعالى . 

وأمَّا ربحه فظهور طفل المعاني ومشاهدته ومعاينته , ونظره إلى وجه الله تعالى جلالاً وجمالاً بعين السّرّ كما قال الله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) بلا كيف ولا كيفية ولا تشبيه كما قال الله تعالى : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (سورة الشورى) . 

فلمَّا بلغ الإنسان مقصوده انحسرت العقول , وتحيّرت القلوب , وكلّت الألسن , ولم يستطع أن يخبر عن ذلك , لأنَّ الله تعالى منزَّه عن المثال , فإذا بلغ مثل الأخبار إلى العلماء فينبغي لهم أن يفهموا مقامات القلوب , ويرغبوا حقائقها , ويتوجهوا إلى أعلى العلَيَين ويجتهدوا إلى أن يصلوا إلى مقام علم الله اللّدنّي وهو معرفة الذات ألحديّ من غير أن يتعرضوا وينكروا هذا المقام الذي ذكرناه .

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية