الفصل الثالث
في بيان حوانيت الأرواح في الأجساد
فحانوت الرّوح الجسماني البدن مع الجوارح الظّاهرة , ومتاعه الشريعة , ومعاملته العمل بالمفروضات التي أمر الله تعالى بها من الأحكام الظّاهرة بغير شركة كما قال الله تعالى : (وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاَ) سورة الكهف , وكما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( إنَّ الله وتر يحبُّ الوتر ) . والمراد منه العمل بلا رياء ولا سمعة .
وربحه في الدنيا الولاية والمكاشفة والمشاهدة في عالم المُلك من تحت الثرى إلى السّماء , ومثله الكرامة الكونية من المراتب الرّهبانيّة كالمشي على الماء , والطيران في الهواء , وطيّ المكان , والسّمع من البعيد , والرؤية في سرّ البدن , ونحو ذلك .
وأمّا ربحه في الآخرة فهو الجنة والحور والقصور والغلمان والشّراب وسائر النّعم ومسكنه في الجنّة الأولى وهي جنّة المأوى .
وحانوت الروح الروانّي القلب , ومتاعه علم الطريقة , ومعاملته اشتغاله بالأسماء الأربعة الأولى من أصول الأسماء الأثنى عشر كما قال الله تعالى : (وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا) سورة الأعراف وهذه إشارة إلى أنَّ الأسماء محل الشّغل وهو علم الباطن , والمعرفة نتيجة أسماء التوحيد كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم : ( إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة ) .
والمراد من الإحصاء أن يكون منعوتاً بها , ومتخلّقاً بأخلاقها , وهذه الأسماء الاثنى عشر أصول أسماء الله تعالى على عدد حروف لا إله إلا الله , فحروف هذه الكلمة اثنا عشر حرفاً , فأثبت الله تعالى في أطوار القلوب لكلّ حرف اسماً واحداً , ولكلّ عالم ثلاثة أسماء فيثبّت الله تعالى بها قلوب المحسنين كما قال الله تعالى :(يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَة) سورة إبراهيم , وأنزل عليهم سكينة الأنس , وأنبت فيها شجرة التوحيد , أصلها ثابت في الأرض السّابعة , بل في تحت الثّرى , وفرعها في السّماء السّابعة , بل إلى ما فوق العرش كما قال الله تعالى : (كَشَجَرَةٍ طَيِبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَآءِ) سورة إبراهيم .
و ربحه حياة القلب . ومشاهدته في عالم الملكوت مثل مشاهدة الجنان وأهلها وأنوارها وملائكتها, ومثل نطق الباطن بلسانه بملاحظة أسماء الباطن بلا نطق ولا حرف . ومسكنه في الآخرة الجنّة الثانية جنة النّعيم .
وحانوت الرّوح السّلطانّي الفؤاد , ومتاعه المعرفة , ومعاملته بملازمة الأسماء الأربعة من المتوسطات بلسان الجنان كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( العلم علمان : علم باللسان , وذلك حجة الله تعالى على ابن آدم . وعلم بالجنان , فذلك العلم النافع ) , لأن أكثر منافع العلم في هذه الدائرة . وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( إنَّ للقرآن ظهراً وبطناً , ولبطنه بطناً , إلى سبعة أبطن ) , وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( إنَّ الله أنزل القرآن على عشرة أبطن ) فكل ما هو أبطن فهو أنفع وأربح لأنه مِفَنٌ .
وهذه الأسماء بمنزلة اثنتي عشرة عيناً انفجرت من ضربٍ بعصى موسى عليه الصلاة والسلام كما قال الله تعالى : (وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ) سورة البقرة .
فعلم الظّاهر كالماء المُطَهَّريّ العارضّي . وعلم الباطن كالماء العينّي الأصلّي , وهو الأنفع من الأول ولا ينقطع كما قال الله تعالى : (وَآيَةٌ لَّهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَََخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأكُلُونَ) سورة يس .
أخرج الله تعالى من الأرض الآفاق حباً هو قوت الحيوانات النّفسانية , وأخرج من الأرض الأنفسية حباً وهو قوت الأرواح الرّوحانية كما قال رسول الله صلى عليه وآله وسلم:(من أخلص لله تعالى أربعين صباحاً ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه).
وأما ربحه فرؤية عكس جمال الله تعالى كما قال الله تعالى :(مَا كَذّبْ الفُؤاد مَا رَأى) سورة النجم , وكما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( المؤمن مرآة المؤمن). والمراد من المؤمن الأول قلب العبد المؤمن . ومن الثاني هو الله (المُّؤْمِن المُهَيمِن العَزِيز الْجَبَّار المُتَكَبِر) سورة الحشر , قال صاحب المرصاد رحمه الله تعالى : ومسكن هذه الطائفة في الجنّة الثالثة وهي جنّة الفردوس .
وحانوت الرّوح القدسيّ في السّرّ كما قال الله تعالى في الحديث القدسيّ : ( الإنسان سرِّي وأنا سِرُّهْ ) . ومتاعه علم الحقيقة : وهو علم التوحيد . ومعاملته ملازمة أسماء التوحيد , وهي الأربعة الأخيرة بلسان السّرّ بلا نطق كما قال الله تعالى : (وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى) سورة طه , ولا يطلع عليه غير الله تعالى .
وأمَّا ربحه فظهور طفل المعاني ومشاهدته ومعاينته , ونظره إلى وجه الله تعالى جلالاً وجمالاً بعين السّرّ كما قال الله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) - سورة القيامة – بلا كيف ولا كيفية ولا تشبيه كما قال الله تعالى :(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) سورة الشورى .
فلمَّا بلغ الإنسان مقصوده انحسرت العقول , وتحيّرت القلوب , وكلّت الألسن , ولم يستطع أن يخبر عن ذلك , لأنَّ الله تعالى منزَّه عن المثال , فإذا بلغ مثل الأخبار إلى العلماء فينبغي لهم أن يفهموا مقامات القلوب , ويرغبوا حقائقها , ويتوجهوا إلى أعلى العلَيَين ويجتهدوا إلى أن يصلوا إلى مقام علم الله اللّدنّي وهو معرفة الذات ألحديّ من غير أن يتعرضوا وينكروا هذا المقام الذي ذكرناه .