قال رضي الله عنه :
أحن إلى خان الحميا لنشوة
تطيش لها اللباب في حال سكرة
والمعنى : أحن بوجدي ووجداني ، وعقلي وروحي وسري إلى خان الحبيب المتعالي ، الذي يسقيني خمرة صافية ، يطيش فيها عقلي ، ويفني فيها حسي ، ليست خمرة عنب ، وإنما هي علوم وأذواق وأسرار ، تنصب على قلبي من سماءالغيب ؛ من عالم الجبروت ، يغرفها لي الحق تعالى بمغرافه الأوفى ، فتمتلئ بها عروقي ، وتقطعني عن إحساساتي ، وتغرقني في بحر المعاني ، وأفنى بها عن الأواني والرسوم ، وهي شراب المحبّة ، الذي من شربه سكر ، وهام وجدا ، ولذا أتبعه بقوله :
أهيم بها وجدا وأفنى بها عشقا
فإن جاءنا صحو شربنا بسرعة
أقيم بها دهري مديما على سكري
مصرا على شرب الحميا السنية
يقول رضي الله عنه عن شرب المحبة وهو مدمن عليه ، واقفا في باب ربه ، فانيا عن حسه ، غارقا في بحر المعاني ، طالبا المزيد : أهيم بالخمرة الربانية وجدا ، أي شوقا وطربا إليها ، وانزعاجا من قواطع الروح عنها ، لأن الوجد وارد يحرك القلب ويزعجه ، إما شوق مقلق فيثير بسطا وسرورا ، وإما خوف مزعج يثير قبضا وحزنا ، يريدها بوارد وجداني ، ويفنى عن حظوظه ولحوظه فيها ، عشقا لها ، وغراما فيها ، لأنها قوام روحه ، وبهجة سروره ، لا يستأنس إلا بها ، فلا خير في رأس لا سكر فيه ، فالإنسان الخالي من المعنى لا يعتبر تماما ، وخير الناس من لا يفيق من شراب المحبة إلا نادرا ، والسكر والصحو حالتان متعاقبتان لبعضها على الولي ، فتارة يظهر عليه السكر فيغرق في المعاني ، ويفنى عن إحساساته كلها ، فيغيب في الجمع عن الفرق ، ثم يصحو فيرجع إلى السلوك بالله ، فيشاهد الله في كل شيء ومع كل شيء وقبل كل شيء وبعد كل شيء ، إلى آخره ، ولا يشبع منها إلا المحروم . ولذا قال رضي الله عنه : فإن جاءنا صحو شربنا بسرعة . أي فإن رجعنا إلى الصحو عدنا إلى الخمر ، كما قال ابن مشيش رضي الله عنه :"وأدمن الشرب بكأسها مع السُّكر كلما أفّقْتَ أو سكرت شربت حتى يكون سكرك وصحوك به" . لأنه لا يقنع من الزيادة إلا مَن بقريحته برودة ؛ فلذا قال صاحب هذه القصيدة ، في قصيدته العينية :فما نُصبت إلاّ لتَرى فيها مولاها ، فإذا عرفته ، طاحت تلك الرسوم والأشكال ، ولا يبقى إلا الكبير المتعال.
** ** **