آخر الأخبار

جاري التحميل ...

تاج العروس الحاوي لتهذيب النفوس -4


من علم قرب رحيله 
أسع في تحصيل الزاد

من قارب فراغ عُمره ويريد أن يستدرك ما فاته ، فليذكر بالأذكار الجامعة ، فإنه إذا فعل ذلك صار العمر القصير طويلا كقوله : سبحان الله العظيم وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه ومداد كلماته . وكذلك من فاته الصيام والقيام ، أن يشغل نفسه بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنك لو فعلت في جميع عمرك كا طاعة ثم صلى الله عليك صلاة واحدة رجحت الصلاة الواحدة ما عملته في عمرك كله جميع الطاعات لأنك تصلي على قدر وُسعك وهو يُصلي على حسب ربوبيته . هذا إذا كانت صلاة واحدة ، فكيف ذا صلى عليك عشرا بكل صلاة ؟! كما جاء بالحديث الصحيح . فما أحسن العيش إذا أطعت الله فيه بذكر الله تعالى أو الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم . يُروى أنه ( ما من صيد يُصاد ، ولا شجرة تُقطع إلا بغفلتها عن ذكر الله تعالى) ، لأن السارق لا يسرق بيتا وأهله أيقاظ بل على غفلة أو النوم . 

من علم قُرب رحيله أسرع في تحصيل الزاد ، ومن علم أن إحسان غيره لا ينفعه جد في الإحسان ، ومن أخرج ولم يحسب خسر ولم يدر ، ومن وكل وكيلا واطلع على خيانته عزله . كذلك نفسك قد اطلعت على خيانتها فاعزلها وضيق عليها المسالك. 

إذا رأيت فيك الإعراض والشهوة والغفلة فهذا وصفك ، وإذا رأيت فيك الإنابة والخشية والزهد فهذا من صنائع الله . 

مثال ذلك : إذا رأيت ببلادك الحَلْفاء والشوك والعوسج فهذا نبات أرض بلدك ، وإذا رأيت بها العود الرطب والمسك والعنبر فاعلم أنه مجلوب من صنائع الله ليس من نبات أرضك : فالمسك من غزلان عراقها ، والعنبر من بحر هندها.

مثال الإيمان معك إذا عصيت الله تعالى كالشمس المكسوفة ، أو كالسراج إذا غطيته بصحفة ، هو موجود ولكن منع نوره الغطاء . ثم إنك تحضر المجلس في الجامع ليتوفر عقلك ، وإن كان عمرك قليلا فيصير كثيرا بحصول الإيمان والخشوع والخضوع ، والخشية والتدبر والتذكر ونحوها . فلو عرفت الإيمان ما قاربت العصيان ، فلا غريم أمطلُ من النفس ولا عدو أعظم من الشيطان ولا معارض أقوى من الهوى . 
ولا يدفع المدد الهابط مثلُ الكبر ، لأن الغيث لا يقرُ إلاّ على الأرض المنخفضة لا فوق رؤوس الجبال، فكذلك قلوب المتكبرين تنتقل عنها الرحمة وتنزل إلى قلوب المتواضعين. والمراد بالمتكبرين : من يردُ الحق ، لا من يكون ثوبه حسنا ، ولكن الكبر بطر الحق ، أي دفعه واحتقار الناس . ولا تعتقد أن الكبر لا يكون إلا في وزير أو صاحب دنيا ، بل قد يكون فيمن لا يمكلك عشاء ليلة ، وهو يُفسد ولا يُصلح لأنه تكبر على حق الله تعالى . ولا تعتقد أن المنكوب من كان في الأسر أو في السجن بل المنكوب من عصى الله وأدخل في هذه المملكة الطاهرة نجاسة المعصية . 
كثيرٌ من أنفق الدنانير والدراهم ولكن من أنفق الروح قليل ، الأحمق من مات ولده وجعل يبكي عليه ولا يبكي على ما فاته من الله عز وجل ، فكأنه يقول بلسان حاله : أنا أبكي على ما كان يشغلني عن ربي ، بل كان ينبغي له الفرح بذلك ، ويقبل على مولاه لأنه أخذ منه ما كان يشغله عنه ، وقبيحٌ بك أن تشيب وأنت طفلُ العقل ، صغيره ، ولا تفهم مراد الله منك، فإن كنت عاقلا فابك على نفسك قبل أن يُبكى عليك ، فإن الولد والزوجة والخادم والصديق لا يبكون عليك إذا مُت ، بل يبكون على ما فاتهم منك ، فسابقهم أنت بالبكاء وقل : يحقُ لي أن أبكي على فوات حظي من ربي قبل أن يبكوا علي.
كفى بك جهلا أن يعاملك مولاك بالوفاء ، وأنت تعامله بالجفاء .

ليس الرجل من صاح بين الناس في المجالس ، إنما الرجل من صاح على نفسه وردها إلى الله تعالى . 
من عال - حمل - همّ الدنيا وترك همّ الآخرة كان كمن جاءه أسد يفترسه ثم قرصه برغوث ، فاشتغل به عن الأسد ، فإن من غفل عن الله اشتغل بالحقير ، ومن لم يغفل عنه لم يشتغل إلا به . فأحسنُ أحوالك أن تفوتك الدنيا لتحصيل الآخرة ، وطالما فاتتك الآخرة لتحصيل الدنيا. 
ما أقبح الخوف بالجندي ، وما أقبح اللحن بالنحوي ! وما أقبح طلب الدنيا لمن يُظهر الزهد فيها .
ليس الرجل من يُربيك لفظه ، إنما الرجل من يُربيك لحظه .

بركة نظر الولي

عن الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه أنه قال : إذا كانت السلحفاة تُربي أفراخها بالنظر كذلك الشيخ يربي مريده بالنظر ، لأن السلحفاة تبيض في البر ، وتتوجه إلى جانب النهر ، وتنظر إلى بيضها ، فيربيهم الله لها بنظرها إليهم . 
إياك أن تخرج من هذه الدار وما ذُقت حلاوة حبه . ليس حلاوة حبه في المآكل والمشارب ، لأنه يشاركك فيها الكافر والدابة ، بل شارك الملائكة في حلاوة الذكر ، والجمع على الله تعالى ، لأن الأرواح لا تحتمل رشاش النفوس ، فإذا انغمست في جيفة الدنيا لا تصلح للمحاضرة ، لأن حضرة الله تعالى لا يدخلها المتلطخون بنجاسة المعصية . فطهر قلبك من العيب يفتح لك باب الغيب ، وتُب إلى الله وارجع إليه بالإنابة والذكر ومن أدام قرع الباب يُفتح له ، ولولا الملاطفة ما قُلنا لك ذلك ، لأنه كما قالت رابعة العدوية رضي الله عنها : ومتى أُغلق هذا الباب حتى يُفتح، ولكن هذا باب يوصلك إلى قربه .

التودُّد إلى الله تعالى 

وإياك وذهول القلب عن وحدانية الله تعالى ، فإن أول درجات الذاكرين استحضار وحدانيته تعالى .وما ذكره الذاكرون ، وفُتح عليهم إلا باستحضار ذلك ، وما طردوا إلا بذكرهم مع غلبة الذهول عليهم . وتستعين على ذلك بقمع الشهوتين : البطن والفرج. ولا يُضادك في الله إلا نفسك . ما أكثر توددك للخلق ، وما أقل توددك للحق ! لو فُتح لك باب التودد مع الله لرأبت العجائب : ركعتان في جوف الليل تودد ، عيادتك للمرضى تودد . صلاتُك على الجنائز تودد ، الصدقة على المساكين تودد ، إعانتك لأخيك المسلم تودد ، إماطتك الأذى عن الطرق تودد . ولكن السيف المطروح يحتاج إلى مساعد ، ولا عبادة أنفع لك من الذكر ، لأنه يُمكن الشيخ الكبير والمريض الذي لا يستطيع القيام والركوع والسجود .
واعلم أن العلماء والحكماء يُعرفونك كيف تذخل إلى الله تعالى، هل رأيت مملوكا أول ما يُشترى يصلح للخدمة ؟ بل يُعطى لمن يُربيه ويُعلمه الأدب ، فإن صلح وعرف الأدب قدمه للملك . كذلك الأولياء يصحبهم المُريدون حتى يُزجوا بهم إلى الحضرة ، كالعوام إذا أراد أن يعلم الصبي العوم يُحاذيه إلى أن يصلح للعوم وحده ، فإذا صلح زجه في اللجة وتركه .

الأنبياء والأولياء وسيلة كبري إلى الله 

فائدة مباركة : وإياك أن تعتقد أن لا يُنتفع بالأنبياء والأولياء والصالحين ، فإنهم وسيلة جعلها الله إليه لأن كل كرامة للولي هي شهادة بصدق النبي عليه الصلاة والسلام جرت على أيدي الأولياء مثل خرق العادة، والمشي على الماء، والطيران في الهواء، وإخبار المغيبات، ونبع الماء، ونحو ذلك لأنهم لم يعطوا ذلك إلا لأجلهم.

عن الشيخ أبي الحسن الشاذلي رضي الله عنه أنه قال : كل نفسك وزنها بالصلاة ، فإن انتعت عن الحظوظ فاعلم أنك سعدت ، وإلا فابك على نفسك إذا جررت رجلك إلى الصلاة جرا ، فهل رأيت حبيبا لا يريد لقاء حبيبه؟ قال الله تعالى :(اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) . 

فمن أراد أن يعرف حقيقته عند الله ، وينظر حاله مع الله ، فلينظر إلى صلاته :إما بالسكون والخشوع أو بالغفلة والعجلة ، فإن لم تكن بالوصفين الأولين فاحث التراب على رأسك ، فإن من اجالس صاحب المسك عبق عليه من ريحته ، فإن الصلاة مجالسة الله تعالى فإذا جالسته ولم يحصل لك منه شيء دل ذلك على مرض في قلبك وهو إما كبر ، أو عجب أو عدم أدب . قال الله تعالى : " سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَّا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ " فلا ينبغي لمن صلى أن يُسرع الخروج بل يذكر الله تعالى ويستغفره من تقصيره فيها ، فرب صلاة لا تصلح للقبول فإن استغفرت الله بعدها قُبلت . كان النبي عليع الصلاة والسلام إذا صلى استغفر الله ثلاث مرات .
كم فيك من الكوامن فإذا أوردت عليها الواردات أظهرتها ، وأعظمها ذنبا : الشك في الله ، والشك في الرزق شك في الرازق .



التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية