الأصول القرآنية والأخلاقية السلوكية في التربية الروحية الإسلامية وأهميتها للفرد والمجتمع من خلال كلام ابن عباد الرندي
د عبد الهادي هنركمب
جامعة جورجيا
أما بَعد ، فلَقدْ كانتِ الأَخلاقُ - وَمَا زالَتْ -هي اصلُ الرسالَة الربانيّة منذُ فجرِ الإنسانيّةِ الأوَّلِ ؛ فالأخلاقُ كيانُ الشَّريعَةِ الإسلاميَّةِ والفَلَكِ والمَدارِ الَّذي تدورُ فيهِ كُلُّ العُلومِ ؛ أو نقولُ الأخلاقُ مِنَ المصالِحِ الكلِّيَةِ التي تحكُمُ - عندَ علماءِ الأُصولِ - علَى المَصالِحِ الجُزئيَّةِ . فكما اهتَمَّ الفقَهاءُ بالجانبِ الفِقْهِيِّ منَ الشَّريعَةِ فقدْ قامَ علَماءُ علمِ التصوُّف بالاهتِمامِ بالجانِبِ السُّلوكيِّ التّرْبَويِّ الأخلاقيِّ منْها . فقَد عرّفوا علم التّصوف بالاهتمام بالجانب السّلوكيِّ التربويِّ الأخلاقيِّ مِنهاَ . فقَد عَرَّفوا علمَ التّصوّفَ بأنّهُ أخلاقٌ ؛ إذْ يقُولُ أبو بَكرِ الكَتَّانيّ (ت 322 ه) - رضيَ اللهُ عنهُ - ؛ وهوَ من عُلماءِ القرنِ الرّابعِ الهِجريِّ " التّصوُّفُ كُلُّهُ أَخلاَقٌ فَمَنْ زَادَ عَلَيْكَ بالأخلاقِ فَقَدْ زَادَ عَلَيْكَ بِالتَّصَوُّفِ" . ويقولُ أبُو القَاسِمِ الجُنَيْدُ البَغْدادِيُّ - سَيِّدُ الطّائِفَةِ - رضِيَ اللهُ عَنْهُ (ت 298 ه) - عنِ التّصوُّفِ :"العُلُوِّ إلَى كُلِّ خُلُقٍ شَرِيفٍ والعُدُولُ عَنْ كُلِّ خُلُقٍ دَنيءٍ" . وقد سُئِلَ محمّدُ بنُ عليِّ القصّابُ (ت 275 ه) وهو أستاذُ الجُنيْدِ - رضيَ اللهُ تعالى عنهُمَا - عنِ التّصوُّفِ مَا هوَ فقالَ :"أخْلاَقٌ كَرِيمَةٌ في زَمنٍ كريمٍ منْ رَجٌلٍ كريمٍ معَ قومٍ كرامٍ" .
وأبعدُ منْ هذاَ مَا ذَكرَهُ الإمامُ الحافظُ أبو نعيمِ الأصفَهانِيُّ في حِليةِ الأولياءِ وطبقاتِ الأصفياءِ عنْ سيِّدِنا جَعفَرِ بنِ محمّدٍ الصّادِقِ (ت 184 ه) - رضيَ اللهُ عنهُ -أنّهُ قال :"مَنْ عاشَ في ظاهرِ الرَّسولِ سُنِّيٌّ ومنْ عاشَ في باطِنِ الرَّسولِ فهوَ صوفيٌّ" ؛ وزادَ أبو نعيمٍ توْضيحاً لقَولِ جعفرِ الصّادِقِ "وأراد جعفرٌ بباطنِ الرّسولِ صلّى اللهُ عَليهِ وسلّمَ ؛ أخلاقُهُ الظّاهرَةَ واختِيارَهُ لِلآخرَةِ" .
ثمَّ نجِدُ في القرن الثاّلثِ عشرَ منَ الهجرَةِ العالِمَ الربّانيَّ التّقيَّ الفقيهَ المغربيَّ ومفسِّرَ القرآنِ الكريمِ ، الشّيخَ والشّريفَ المشهورَ ، سيّدي أحمَدَ بنُ عجيبةََ (ت 1223 ه) - رَضيَ اللهُ تعالى عَنهُ - يُعرِّفُ التّصَوُّفُ في كِتابهِ مِعراجُ التّشَوُّفِ إلَى حَقائقِ التّصَوُّفِ بأنّهُ "سيّدُ العُلومِ ورئيسُها ولُبابُ الشّريعَةِ وأسَاسُها" . وَ يُعَلِّلُ علاقَةَ التَّصوُّفِ بالأخلاقِ والإِحسانِ والسُّلوكِ قائلاً "وكيفَ لا وهو تفسيرٌ لِمَقامِ الإِحسَانِ الّذي هوَمَقامُ الشّهودِ وَالعَيَانِ ؟ّ" ؛ ثمَّ يزيدُ ذلكَ توضيحاً حيثُ يقولُ :"التّصوُّفُ عِلْمٌ يُعْرَفُ بِهِ كَيْفِيَّةُ السُّلوكِ إِلى حَضْرَةِ مَلِكِ المُلُوكِ ، أَوْ تَصْفِيَّةُ البَواطِنِ منَ الرَّذائِلِ وَتَحليَّتُها بِأنْواعِ الفَضَائِلِ".
فهذهِ الشَّواهِدُِ منَ الماضيِّ والحاضِرِ وإنْ دَلّتْ على شيءٍ فإنّها تَدُلُّ علَى ذاتِيَّةِ الأخْلاَقِ فِي عِلْمِ التّصوّفِ ، وَإذا كانَ الأمرُ كذلكَ فَما أحوَجَ النّاسَ في هذا الزّمَانِ إلَى أخْلاَقِ التّصَوُّفِ ، ولَكنْ مَا هيَ الوَسيلَةُ إلى هذِهِ الغايَةِ ؟ وكيفَ الطّريقُ إذا ضَلَّ الإنسانُ وامتزَجَتْ عليهِ الطُّرُقُ وأَحاطَتْ بِهِ الفِتَنُ إحاطَةَ السّوّارِ بالمِعْصَمِ . فَمَا السّبيلُ ؟
يتبع ...
منشورات الملتقى العالمي للتصوف
مداغ - بركان - المغرب