إذا كان المولى سبحانه يتقرب ذراعاً لمَن تقرّب منه شبراً ، وباعاً لمَن تقرّب منه ذراعاً ، ويأتي هرولة لمن يأتيه مشياً ، فضِدُّ ذلك يفعل مع من تباعدَ عنه واختار بدلاً منه (سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) وإنّما يَرحمُ الله من عباده الرحماء فهذا هو السر في ما ذكرناه .
وكان الأستاذ أبو علي الدقاق رضي الله عنه يقول : إن أصحاب الكسل عن عبادته هم الذين ربط الحق بأقدامهم مثقلة الخذلان ، فاختار لهم البُعد فأخّرهم عن محل القرب ولذلك تأخروا ، وبهذا يتبيّن لك أن الإنسان كلما علا مقامه في عِلمٍ أو عَمَل ولم يحفظه باتهامه لنفسه ، وعدم وقوفه مع عقله وحدسه ، لا ينحط إلاّ إلى ما هو من حال أدنى الناس مقاماً . وليته لو ساواه فى ذلك فما أسعده وأبخته . واعْتبِر هذا المعنى بقصة بلعام" وبرصيص". ولهذا المعنى كان العوام خير من المتفقهة والمتقرنة الأقحاح ، وأقرب من الحق ، والمتفقهة والمتقرنة الأقحاح شراً منهم وأبعد من الحق . ونعني بالأقحاح الذين لم يشمُوا شيئاً من علوم هذه الطائفة ، لأن من شمّ منها ولو الشيء اليسير قد تمكنه مداواة نفسه فيعود إلى صحته من مرضه ونكسه . وأما من لم يحظ منها بشيء فما أسوده بسعده ، وما أفلسه من معونة ورفد ، وما أغبن تجارته وما أعظم خسارته ، خسارة وأي خسارة ، لم يخسر فيها مالاً ولا جمالاً ، وإنما خسر نفسه التي لا لا يرجوا منها تعويضاً ، ولا إبدالاً (خَسِرُوٓاْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ) .