آخر الأخبار

جاري التحميل ...

من كان منكم بلا معرفة فلا يُعوَّلُ عليه

من كان منكم بلا معرفة فلا يُعوَّلُ عليه

أن تدرك، وتعي، وتفقه، وتعلم، وتتعلَّم، وتتأمَّل، وتفكِّر، وتفهم، وتبحث، وتستبطن، وتستشرف، وتتنبَّأ، وترى، وتُفسِّر، وتشرح، وتستقصى، وتناقش، وتُحاجج، وتُجادل، وتُحاور، تلك هى المعرفة.

ويذكر أبو القاسم القشيرى (376 - 465 هـجرية) فى « الرسالة القشيرية» أن: «المعرفة على لسان العلماء هى العلم، فكل علم معرفة، وكل عالم بالله عارف، وكل عارف عالم»، وشجرة المعرفة مُتعدِّدة الجُذور والفرُوع، ومتنوِّعة الثمار، ولا تمنح نفسها لقاطفها بسهولةٍ ويُسرٍ، إذْ لابد من دأبٍ ومُجاهدةٍ ومثابرة ومُراودة وخلوة وكشف ؛ حتى يصل إلى المجهول.فـ«الكَاملُ مَنْ عَظُمَتْ حَيْرَتُهُ» من فرط السُّؤال والسَّعى والحيْرة والمشاهدة، والكشف والإلهام، حيث إنَّ بحر المعرفة وسيعٌ ولا سواحل له، و«من ذاق عرف»، حيث الذوق سبيلٌ للمعرفة عند المتصوفة، ولكنه ليس السبيل الأوحد، وبالطبع ليس وحده وسيلة المعرفة، فـ «ما يجده العالم على سبيل الوجدان والكشف، لا البرهان والكسب، ولا على طريق الأخذ بالإيمان والتقليد» كما جاء فى «طبقات الصوفية» لأبى عبد الرحمن محمد بن الحسين السُّلَمِى (325 - 412 هـجرية). ويقول محيى الدين بن عربى فى كتابه (فُصوص الحِكَم): «اعلم أنَّ العلومَ الذوقية الحاصلة لأهل الله مختلفةٌ باختلاف القوى الحاصلة مع كونها ترجع إلى عينٍ واحدة».

و«المعرفة التى تُسْقِطُ التمييزَ، بين ما يجوزُ للمُكلِّف التصرُّف فيه، وبين ما لا يجُوز لا يُعوَّل عليه »، كما قال الشيخ الأكبر محيى الدين بن عربى فى «رسالةُ الذى لا يُعوَّلُ عليه»، إذ ليس وراء المعرفة - التى تُدْرَكُ بالحواس والنظر والملاحظة والغرض والاستنتاج والاستنباط والاستدلال وﺍﻟﺘﺠﺮﺑﺔ والبحث وراء الأسباب ﻭﺍﻟﺨﺒﺮﺓ ﻭﺍﻻﻛﺘﺴﺎﺏ ﻭﺍﻟﺘﺤﺼﻴﻞ والاطلاع والتعليم وﺍﻟﺤﺪْﺱ ﻭﺍﻟﻌﻘﻞ - مرمى ماديًّا سوى المعرفة ذاتها، والإفادة منها فى بناء مُدن المعرفة، وتحقيق «الإنسان الكامل» التام الذى يعيشُ فى هذه المدن، والمثالية فى المعرفة ليست يوتوبيا أفلاطونية، ولكنها واقعٌ يسهلُ تحقيقه بيننا مثلما تحقَّق بين بشرٍ آخرين غيرنا، وبالتالى الجهل والفقر والجوع والمرض لا يُعوَّل على واحدٍ من بينها ؛ لأنها تقف حائلا وحائطًا عائقًا أمام تحقيق المعرفة التى تُثْمِرُ «السعادة المطلقة»، وتُحقِّق الرفاهيةَ القصوى للرُّوح والنفس التى تسعى إلى تغيير ذاتها، لأن المعرفة فى حد ذاتها قوَّة، إذ هى فى معناها العام «إدراك الشىء على ما هو عليه».

ومن يمتلك المعرفة يكون صاحب رأى يخصُّه وقرار يتخذه، غير منتظر مساعدةٍ من أحدٍ، حيث يصبح سيد نفسه، وليس عبدًا لسيدٍ أو سيديْن أو أكثر فى الوقت نفسه، وليس تابعًا لغيره مهما يكُن شأن هذا الغير، ومن ثم لابد من قراءة كتاب الذات ومعرفة النفس، وشرح صدر الإنسان لآيته امتثالا لقول النِفَّرى: (وقال لى اعرف من أنتَ، فمعرفتك من أنت، هى قاعدتك التى لا تنهدم وهى سكينتك التى لا تزل).

وهنا لابد من عقلٍ يفكِّر، وليس عقلا ينقل عن سواه، يقلد أو يتبع، أو ينام فى حِضن ما تركه الأسلافُ دون أن يغيِّره أو يطوِّره أو يضيف إليه.حيث المعرفة تحرِّر الإنسان (صاحب المعرفة) من التقليد والتبعية.

وصدق أبو العباس أحمد بن العريف الصنهاجى (481 - 526 هـجرية / 1088 - 1141 ميلادية) حين قال: «المعرفة محجتى والعلم حجتى، فالعلماء لى والعارفون بى، والعارف يستدل بى، والعالم يستدل لى». فأصحاب المعرفة (لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ).

وقديما قال النّفرى (المُتوفَّى نحو 354هـجرية) إن «العِلْمُ الْمُسْـتَـقِــرُّ هُوَّ الْجَهْلُ الْمُسْـتَـقِرُّ»، وقال ابن عربى إن «المَعْرِفَةُ إِذَا لَمْ تَـتَـنَوَّع مَعَ الأَنْفَاسِ لاَ يُعَوَّلُ عَلَيْهَا». وقال أيضا: (كل معرفة لا تتنوع لا يعول عليها )، ومهما أوتى الإنسانُ من معرفةٍ فـ﴿ فَوْقَ كُلِّ ذِى عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾، (وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا).

أن نصل إلى الحقائق بدلا من أن ننام فى العماء، وننعم فى الجهالة، فلن تضطلع بشئ لو لم تطَّلع على ذاتك؛ لتقرأها بعمقٍ وتجرُّد،بحيث تنحاز إلى التجريب والمغامرة . مردِّدا مقولة ديكارت «أنا أفكر إذن أنا موجود»، والتى تعنى مباشرةً «أنا أعرف» ؛ ولذا أرى أن الحُب يقود إلى معرفة الأشياء وإدراك كنهها، لأن الحُب يحرِّر الروح من ربقتها، ويمنحها حرية طيران لا تُحدُّ، خصوصًا إذا أدركنا أن النفس تتجدد خلاياها بالمعرفة.

ودائما ما أفصل بين المعرفة- التى هى إدراك الأسرار- وبين المعلومة، فالثانية هى الطريق الذى يمهِّد لمن يسلك درب المعرفة الطويل الذى يؤدِّى إلى الحقيقة الكلية والمطلقة والتى لا يعتورها شكٌّ، ولا يعتريها بهتان.والعارف الرَّائى ـ من أهل الذوق وأصحاب الأسرار وحاملى نور الكشف- من يستطيع تحليل واستخدام ما تراكم أمامه من معلوماتٍ أيًّا ما كانت كميتها.

والمعرفة لا تحيا فى مجتمعٍ يكرهها أو يعرقلها ويعوق شجرتها ؛ لأن المعرفة بنت التعدُّد والتنوُّع والفرق والاختلاف وتموت مع الاستبداد والأحادية والقهر وإغلاق الأبواب والنوافذ حتى يفسد الهواء، و«المعرفة فى اصطلاح النحاة هو اسم وضع لشىء بعينه، وقيل ليستعمل فى شىء بعينه. ويقابله النكرة. التعريف عبارة عن جعل الذات مشارًا بها إلى خارج إشارة وضعية. ويقابلها التنكير وهو جعل الذات غير مُشارٍ بها إلى خارجٍ فى الوضع»، ولابن عربى (558 هـجرية - 1164ميلادية / 63هـجرية - 1240ميلادية) رسالة منشورة فى كتاب اسمها «كتاب المعرفة»، وشجرة المعرفة أو شجرة الوجدان أو الشجرة المحرَّمة، وتلك الشجرة تقع كما جاء فى سفر التكوين التوراتى فى منتصف جنة عدن، وقد حرَّم الله على آدم وحواء أكل ثمار هذه الشجرة، فأغواهما الشيطان بالأكل منها ليخلدا، (فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) سورة الأعراف/ 22.

أمَّا شجرة المعرفة فى زماننا، فحتمًا لابد من أن تُذاق وتُؤكل.

وللمعرفة سبلٌ وطرائقُ يمكن تحصيلها والوصول إليها عبر الحواس والعقل والقلب والوحى والإلهام، وكسب المعرفة يتطلّب مثابرة وجهدًا.

ولهذا يقول أبو على الدقَّاق: «المعرفة توجب السَّكينة فى القلب، كما أنَّ العلم يوجب السُّكون، فمن ازدادت معرفته ازدادت سكينته».

**   **   **

أحمد الشهاوي

المصدر : http://www.almasryalyoum.com/news/details/1204881

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية