اعلم أيها الناظر بعين التحقيق أن العلوم وإن جلَّت ووقع الثناء على أربابها فهي إذا تأملتها ظلمة بالنسبة إلى علوم ذوي التحقيق ، وهم الذين اصطفاهم الحق إلى حضرته، فغرقوا في بحر الذات وتيار الصفات فكانوا هناك بلا هم ، وهم الخاصّة العليا الذين شاركوا الأنبياء في أحوالهم فلهم فيهم نصيب على قدر إرثهم من موروثهم ، وقد قال صلى الله عليه وسلم :"العلماء ورثة الأنبياء" . فهم يقومون مقامهم عى سبيل العلم والحكمة لا على سبيل التحقيق بالمقام والحال ، فإن مقامات الأنبياء جلّت أن يلمح حقائقها غيرهم .
فالعلم الحقيقي الذي يستحق الثناء صاحبُه عليه هو علم الوراثة المستخرج من علم الدراسة ، نعني بعلم الوراثة العلم الوهبي اللدني الفائض من بحر الفضل والتجلّي الذاتي والصفاتي ، ونعني بعلم الدراسة علم الشريعة الذي هو صوان علم الوراثة ، فعلم الوراثة هو لبّ علم الدراسة ، وما مثلهما إلاّ كمثل اللبن والزبد ، فعلم الدراسة لبن وعلم الوراث زبد . فالزبد لا يوجد إلاّ بوجود اللبن ، واللبن لا يكمل وجوده إلاّ بوجود المائية ، "وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ" .
فعلوم الدراسة صورة ، وعلوم الوراثة حقيقة ، وكلاهما روح الآخر وبجمعهما يصير الإنسان من الراسخين في العلم . ولا نعني بالجمع الكمال في الجزئية الرسمية ، فإنّ هذا متعذّر ، بل المراد بالجمع الاستغراق في برزخية الشريعة والحقيقة حتى يكون الإنسان معتدل الميزان فيما بينهما، وإذا وُجدت العلوم الرسمية فلا تُنكر ، ولا يشترط الكمال في جزئيتها أيضاً . وقد اغترّ من لا علم عنده بقول أبي سعيد الخراز في تفسير الراسخين في العلم إنهم الذين كَمِلُوا في جميع العلوم واطّلعوا على هِمَمِ الخلق كلهم أجمعين ، وظنّ أنّ الرسوخ لا يكون إلاّ بالجمع للعلوم ، وهذا جهل كبير بحيث لو أحكمنا هذا لزم أنّ أكابر الصحابة كعمر بن الخطاب وأبي بكر لم يكونوا من الراسخين لأنّه ثبت أنّ سيدنا عمر أو سيدنا أبا بكر ، شكّ منّي ، لمّا قرأ قوله تعالى :"وَأَبّاً * مَّتَاعاً لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُم" ، قال : ما الأبّ ؟ فعدم علمه هذه الجزئية لا ينفي كونه من الراسخين . كذلك غيره لو انتفى علمه بجزئيات العلوم الرسمية أو بعضها لا ينتفي عنه الرسوخ في العلم .
وتأمّل قول مالك بن أنس وقد سُئل عن الراسخين في العلم من هم ؟ قال : "العامل بما علم ، المتّبع له" .
وكذا قول سيدنا نافع بن زيد كان يقول :"الراسخون في العلم المتواضعون لله ، المتذللون في طلب مرضاته ، لا يتعاظمون على مَن فوقهم ولا يحقرون مَن دونهم" .
ولا شكّ أنّ تفسير الرسوخ بهذه المعاني لا تتوقّف على معرفة العلوم الرسمية لأنّه ظهر أنّ الرسوخ من صفة الوهبي ، لا الكسبي .
وأنت أيها الفقيه إذا تدبّرت ما قلته وأنصفت فإنك تربح بحول الله وقوّته. وأمّا إذا تتبعت ما تقتضيه الجبلة من إنكار شيوخ الطريق الذين أوتوا الحكمة الربانية ولا خبرة لهم بالعلوم التي أنت متضلّع بها فلا شكّ يا فقيه أنّك متعرّض لسخط الله ومقته. وقد كنا قبلك نظنّ أنّ الأمر كما فهمت حتى زال لبس النفس، والحمد لله، بصحبة الرجال وعرفنا ما المراد وما المريد ، والحمد لله . وقبلي وقبلك التبس الأمر على فحول الرجال من أكابر العلماء كسلطان العلماء وحجة الإسلام حتى ساعدتهم الأقدار بملاقاة الأخيار فزال الغطاء عن بصيرتهم وتبيّن كذب وارداتهم ، فتابوا إلى الله وردّوا الحقوق إلى أربابها ، ففتح الله عليهم . وها أنا قد نصحتك ، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل . والسلام .
بغية السالك وإرشاد الهالك