ثم قال رضي الله عنه :
أَوَّلُ وَاجِبٍ عَلَى مَنْ كُلِّفَا
مُمَكَّناً مِنْ نَظَرٍ أَنْ يَعْرِفَا
اللَّهَ، والرُّسُلَ، بالصِّفَاتِ
مِمَّا عَلَيْهِ نَصَبَ الآياتِ
أخبر أن أول واجب على المكلف وهو العاقل، وسيأتي معنى البلوغ عند القوم حالة كونه متمكنا من نظره للحق، أي حصلت له رؤية الحق، وارتفع عنه الحجاب، فهذا هو الذي يجب عليه معرفة الله في سائر المظاهر، وأما الذي لم تحصل له رؤية الحق، ولم يرتفع عنه الحجاب، فهذا ليس بمكلف أن يعرفه من سائر التجليات، وبسائر الصفات، ومحط الكلام في المكلف الذي بلغ مقام الرجال وخرج من سجن التقليد إلى فضاء التوحيد، وزعم أنه عرف الله، فهذا هو المكلف بتكليف لا يطيقه أحد سواه، فينبغي له أن يعرفه بسائر الصفات لا بمجرد الذات، وينكر ما سوى ذلك من التجليات، فإن الجاهل بالصفات جاهل بالموصوف، فإياك يا أخي إن عرفته بالشهود أن تنكره في هذا الوجود، فما ظهر سواه، وإياك أن تعرفه في الجمع وتجهله في الفرق، أو تعرفه في الرتق وتجهله في الفتق، فهو يريد منك أن تعرفه فيما يريد لا فيما تريد أنت، فكن معه مسيّرا لا مخيّرا، ولو كنت عارفا بالذات لما أنكرته في التجليات، يريد منك أن تعرفه بالحال لا بمجرد المقال، فلهذا يختبرك ويحقق دعواك، ليبقى الحد لمحدوده، فإن كنت جاهلا فالجهل مأواك، وإن كنت عارفا فالحق مولاك. فأطلق عنانه وانظر جماله في كل ما تراه، فما ثم سواه، وقل كما قال صاحب الإنسان الكامل رضي الله عنه :
تجلى حبيبـي فـي مرائـي جمالـه ففي كـل مـرأى للحبيـب طلائـع
أنظر جمالي شاهد شاهد في كل إنسان
كالماء يجري نافد في رأس الأغصان
تسقى بماء واحد والزهر ألوان
فكن يا أخي متمكنا في التلوين، فما احتجب الظاهر إلا بقوة المظاهر، فكن معه حاضراً ولا تحتجب عنه بما ليس بموجود معه، أو تقف مع خيالات الصور، فلا تنظر لظاهر الأواني. ولكن حقّق ما هناك من المعاني. قال الجيلي رضي الله عنه :
فلا تحتجب عنه لشيء بصورة فخلف حجاب العين للنور لامع
و أطلق عنان الحق في كل ما ترى ... فتلك تجيات من هو صانع هذا هو الصراط المستقيم فاتبعه ولا تعدل عنه، وخده ولا تغفل عنه، قال تعالى :( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ).
فاتبع يا أخي طريق الحق ولا تعدل عنها أين وجدتها، فإنك تصير غافلا عنه كأنك لم تكن معه، وكل ذلك من عدم مراعاتك لظهوره، وغفلتك عن حضوره، فلا تعرفه بمجرد الجمال وتنكره فيما ظهر عليك من الجلال، بل كن راسخاً في سائر الأحوال، وراعه في الأضداد، فلا تعرفه في البسط وتنكره في القبض، أو تعرفه في العطاء وتنكره في المنع، أو تعرفه في العلم وتنكره في الجهل، أو تعرفه في اليسر وتجهله في العسر، فهذه معرفة التزويق لا معرفة التحقيق، والحبيب حبيب على كل حال. وقيل : (إن جماعة دخلت على "الشبلي" وهو بالمارستان مريض فقال : من أنتم ؟ قالوا أحباؤك. فأخد الحجر وصار يرجمهم، ففرّ جميعهمن، فقال لهم : كذبتم في دعواكم، لو كنتم من ولائي ما فررتم من بلائي) فهذا مثال الحبيب مع حبيبه، فلا تعرف يا أخي مولاك إذا أكرمك، وتجهله إذا أطْرَدك، كلا، وإنما هو مولاك على كل حال،ذولا تحصر له يا أخي وصفا، واحفظه في سائر الأوقات، ولا تقل أتاني منبهجاً فستراه منزعجاً. أو أتاني منطربا فستراه مغتصبا. ولا تقل أنه منعني فسيكرمك، فكن له عبداً في كل حال، كما أنه مولاك على كل حال.
ما يعرف الذي يعرف، تالله إنه لتكليف عظيم، وأمر خطير جسيم، ولهذا قيل : ينبغي للمكلف الممكن من النظرأن يعرف ولا يجهل، قوله :(ممكنا من نظر) أي متمكنا من نظره للحق، بحيث حصلت له الرؤية أن يعرف الله بالصفات وسائر التجليات، ولا يخرج بمعرفته للتجليات الذاتية عما تقتضيه العبودية، ولهذا قال (يعرف الله والرسل بالصفات) جمع رسول وهو المصطفى عليه الصلاة والسلام لأن بمعرفته معرفة الجميع، ومن لزم الأدب فقد أحسن لجميع الرسل، وعليه ينبغي للعارف إذا عرف الله بالذات والصفات، واستغرق في الشهود. لا يخرج بمعرفته عن الحدود، بل يكون راسخاً جامعاً، ظاهره مع الحدود، وباطنه مع الشهود، لا يحجبه فرقه عن جمعه، ولا جمعه عن فرقه، وتكون الحقيقة في باطنه مشهودة، والشريعة على ظاهره موجودة، وهذا مقام شريف، وأمر منيف، فيه تفاوت أهل التعريف، فهو أعز من الكبريت الأحمر، ولا يجمع بين هذين الحالتين إلا من كان له مقام بالغ، وعقل جامع.