هو الذي عرف جلال الربوبية وما لها من حقوق في مرتبة الألوهية على كلّ مخلوق مِن دوام الرضا والخضوع والتذلل إليه ، والعكوف على محبّته وتعظيمه ، ودوام الإنحياش إليه وعكوف القلب عليه ، معرضا عن كلّ ما سواه حبّا وإرادة ، فلا غرض له ولا إرادة في شيء سواه لِعِلْمِهِ أنّ كلّ ما سواه "كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا" . لمّا عرف هذا ، وعرف ما عليه من دوام العكوف على الإنقطاع عن الحضرة الإلهية ، وعرف خسّة نفسه في كثرة شؤمها وشرهها أنّها في جميع توجّهاتها مضادّة للحضرة الإلهية ، وأنّ جميع حضوضها ومراداتها مناقضة للحقوق الربّانيّة ، وعرف ما فيها من التثبط والتثبيط عن النهوض بالقيام بحقوق الحقّ ومعرفة ما يجب له تعالى من الخدمة والأدب بِمَا أَلِفَتْهُ من الميل إلى الراحات ، والعكوف على الشهوات ، والإنقطاع عن خالق الأرض والسماوات ، وأنّ جميع حظوظها لا تدور إلاّ في هذا الميدان ، وعرف عجزه عن تقويم هذه النفس الأمّارة بالسوء وعن ردّها إلى الحضرة الإلهية منقطعة عن هواها وشهواتها ، وعرف أنّه إِنْ قام معها على هذا الحال استوجب من الله تعالى في العاجل والآجل من الغضب والمقت ، وشدّة العذاب والنكال المؤبد للخلود ما لا حدّ له ولا غاية ، وارتعد قلبه في هذا البلاء الذي وقع فيه ، والعلّة المعضلة التي لا خروج منها ، ولا يمكنه المقام مع نفسه على ما هي فيه ممّا ذُكِرَ قبل من استجابة الغضب والمقت من الله تعالى ، ولا قدرة له عى نقل نفسه من مقرّها الخبيث إلى استيطان الحضرة الإلهية ، فحين عرف هذا رجع بصدقٍ وعزمٍ وجِدٍّ واجتهادٍ في طلب الطبيب الذي يخلّصه من هذه العلّة المعضلة ، ويدلّه على الدواء الذي يوجب به كمال الشفاء والصحة ، فهذا هو المريد الصادق ، وأمّا غيره ممّن لم يتّصف بهذه الصفات المتقدّمة فهو طالب لمرتبة لا غير ، قد يَجِدُ وقد لا يَجِدُ ، تعلّقتْ نفسُه بأمر طلبه ، وأمّا الأوّل فلِمَكَانِ صِدْقِهِ كان الشيخ أقرب إليه من طلبه ، فإنّ عناية الحقّ به التي وهبته ذلك العلم المذكور هي التي تقوده إلى الشيخ الكامل ، وتُلْقِيهِ في حضرة الشيخ الواصل ، وتقلب له قلب الشيخ بالمحبّة والتعظيم فيقع الإئتلاف بينهما والأدب فينفتح باب الوصول لأنّ عناية الحقّ متى وقعت على أمر جذبته جذبا قويّا لا يمكن تخلّفه ولو كان ما كان . فالذي يجب على المريد الصادق في الطلب كمال العلم المتقدّم وشدّة الإهتمام بالأمر المطلوب ، وعماية القلب عمّا سوى مطلوبه ، فلا يشتغل بشيء سوى ما يريد . هذا هو الصدق المفيد ، وهو الذي يخرجه من المقت اللاّحق .
** ** **
جواهر المعاني