والتحقيق : أنّ من دخل عالَم التكوين ؛ ما ظهر من جسمه ، يسمى مُلكاً ، وما بطن من أسرارِ المعاني يسمّى ملكوتاً . وما لم يدخل عالَم التكوين من الأسرار الباقية على أصلها يسمّى جبروتاً ، ولا يفهم هذا ، إلا من دخل مقام الإحسان ، وخاض بحر المعاني ، وإلا فحسبُهُ التسليم لأربابه . واعلم أن شهود عالم الملكوت يحجب عن شهود عالَم المُلك ، وشهود عالم الجبروت يحجب عن شهود عالم الملكوت . وكل من ترقىّ إلى مقام ، غاب عمّا قبله ، إلا الرّحموت ، فيمكن شهوده من العوالم كلّها . والله تعالى أعلم.
والحاصل : أن بحر الجبروت ، فيّاضٌ بأنوار الملكوت ، وأنوار الملكوت ، أصلها القبضة النورانية المحمدية . فكل من برز من الجبروت ، فالنور المحمدي واسطة فيه ، وأصل فيه . وهذا معنى قوله :"وحيّاضُ الجَبروتِ بفيضِ أنوارِه صلى الله عليه وسلم"مُتَدَفِّقَةٌ" : أي منصبّة بقوّة . فالتدفّق . هو الانصبابُ بشدّة ، شيئاً فشيئاً ، إنه شبّه بَحرَ الجبروت بحياض مملوءة بماء الغيب . تنصبُّ إلى عالم الشهادة ، شيئاً فشيئاً ، على حسب الإرادة والمشيئة . ولمّا كان نبينا صلى الله عليه وسلم هو سببٌ في إبراز تلك الأنوار ، أضيفت إليه صلى الله عليه وسلم إضافة المسبِّب إلى السّبب . وإن كان الكل جبروتيا لاهوتيا ؛ لأن من لم يشكر الواسطة ـ لم يشكر الموسوط ، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله . فأهل الجدبِ والفناءِ يغيبون عن الواسطة ، فلا يشهدون إلا الجبروت . وأهل البقاء لكمالهم ، يشهَدون الواسطة والموسوط . ويُعطون كلَّ ذي حقّ حقّهُ ، ولا يحجبهم قرقُهم عن جمعِهم ، ولا جمعهم عن فرقهِم . نفعنا الله بهم ، وخرطنا في سِلكهم آمين . وإنما اختار التشبُّه بالحياض ، ولم يشبه البحار ، مناسبة للرياض ؛ لأنه لمّا شبّه الملكوت بالرياض ، ناسب أن يشبّه الجبروت بالحياض ، إذ لا يقوم الرياض إلا بالحياض . كما لا يقوم الملكوت ، إلاّ بالجبروت ، بل هو عنه كما تقدّم ، لكنَّ السالك يترقّى به إلى الجبروت فوجب إثباته ثم محوُهُ . الأكوان ثابتة بإثباته ، ممحوّة بأحدية ذاته ، وإلى إثبات واسطته صلى الله عليه وسلم أشار بقوله :"ولاَ شَيْئَ" من الكائنات "إلاّ وَهُوَ بهِ منُوطٌ" أي متعلّق ومتّصل اتصال المَوسوط بالواسطَة ، فكلُّ من برزَ من عالم الغيب ، فنبيّنا ومولانا محمّد صلى الله عليه وسلم واسطة فيه . كما ورد في بعض الأخبار : "لَولاَ محمّد ما خلقتُ عرشاً و كرسيّاً ، ولا سماءً ولا أرضاً ، ولا جنّةً ولا ناراً" . وفي بردة البوصيري : لولاه لم تُخرَج الدنيا من العدم
. ثم ذكر علّة تعلّق الأشياء به صلى الله عليه وسلم فقال : "إِذْ لَولاَ الواَسطَة" الذي هو نبيّنا صلى الله عليه وسلّم "لذَهبَ كَمَا قيلَ المَوْسوطُ" : أي لوَلاَ توَسُّطُه صلى الله عليه وسلّم بين الله وخلقه ؛ لذهب الموسوطُ الذي هو الكونُ . أي لبقيَ على ما كانَ عليه من العدم . فإذ تعليلة ، والموسوطة فاعل لَذهبَ . والتقدير : إنما تعلقت الأشياء به صلى الله عليه وسلم ، لأنه واسطة . ولولا الواسطة لذهب الموسوطُ كما هو قول مشهورٌ .