ثم ذكرَ معمول قوله صلى الله عليه وسلم، وهو المصدر النّوعي فقال :"صلاةً"أي صل صلاة عظيمة كاملةً "تَلِيقُ" أي بعظمتك وكمالكَ؛ وهذه الصلاة لا يعلم قدرَها إلاّ الله سبحانه وتعالى، وتكون هذه الصلاةُ واصلة "بكَ مِنْكَ إِلَيْهِ" بِلا واسطةِ أحد من خلقك ولا شكّ أن الهدايا والتُّحف التي تصلُ إلى الوزراء بلا واسطة، بل من يدِ الملك إلى الوزير، أعظمُ وأتمُّ ممّن تصل على يد الوسائط. ثم ذكر علّة تعظيم هذه الصلاة فقال :" كما هوَ أَهلُهُ" أي لأجل ما هو مستحقه صلى الله عليه وسلم من التعظيم والإجلال فالكافُ تعليلية، كقوله تعالى :(وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ). ثم ذكرَ وجهَ استحقاقه صلى الله عليه وسلم، لهذه الكرامة فقال :"اللَّهُمَّ"، ليست هي للدعاء، وإنما هي مبالغة في الإقرار. كقوله في الجواب: اللّهُمَّ نعَمْ . مبالغة في تمكين الجواب في دهنِ السّامع . فكأنه قال :أُقِرُّ وأتحقق ، أنه صلى الله عليه وسلم "سِرُّكَ" الخفِي الذي اختصَصْتَ بمعرفَته ، أو سرّك الذي أودعتهُ في هذا الكون ، إذ هو عليه الصلاة والسلام ، سرُّ الأسرار ، ومنبَع الأنوارِ ؛ ومنه انشقت الأسرار ، وانفلقت الأنوار . "الجامِعُ" لِما افترق في غيره . فكانت روحانيته صلى الله عليه وسلم ، جامعة لأوصاف الكمالات ، وبشريتُه جامعةً لأنواع المحاسن ، وشريعتُه جامعة لجميع الشرائع . وكتابهُ جامعاً لسائر الكتب ؛ وهو أيضاً : يجمع الناس على الله ، ويدلّهُم على الجمع ، ويحذرُهم من الفرقؤ ؛ "الدّالُّ عَلَيْكَ" بأقواله وأفعالهِ وأحوالهِ صلى الله عليه وسلّم ؛ فكانت خُطبُه ومواعظُهُ تَرِقُّ منها القلوبٌ ، وتَدرِفُ منها العيونُ .وما بُعثَ عليه السلام إلا دالاًّ على الله ، ومعرِّفاً به تعالى . فما ترك شيئاً يقطع عنِ الله ، إلا حذّرَ العبادَ منهُ . لَمْ يَأْلِ جُهداً في نصح العباد ، وهديهم إلى طريق الرّشاد، فجزاه الله عنهُ أحسن ما جزى رسولاً عن قومِه ، ونبيّاً عن أمّته ، وبعد أن كان عليه الصلاة والسلام دالاً على الله ، كان حَاجِباً من حُجُوبِ الحضرةِ ، لا يدخلُها أحد إلاّ على يديْهِ . فلذلك قال :"وَحِجَابُكَ" الذي يتوسّط ُ بينك وبين الدّاخلين ألى حضرتك . فكل من دخل على يديْهِ عليه السلام ن وعظّمه ، واتّبع سنّته . أدخلهُ الحضرة على نعتِ الهيبةِ والوقارِ والأدبِ ، فاستقرّ في الحضرةِ على الدّوام ، وكلّ من دخل من غير بابِه صلى الله عليه وسلّم ، طُرِدَ ، وعوقِبَ ،وفي ذلك يقول القائل :
وأنتَ بابُ الله أيُّ امرىءٍ
وافى مِنْ غيرِ بابِكَ لا يَدخُلُ
وأيضا : هو صلى الله عليه وسلم ، حجاب الأرواح عن الهلاكِ ، إذ من شأن الروح أن تتطلّع الخوض فيمَا لا تقدرُ عليه من بَحرِ الجبروت ، فكلّما همّت بالخوض فيه ، زاجرها عليه السلام ، وعاقلها بعقال الشرائعِ ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام :(تَفكّرُوا في آيَاتِهِ ، وَلاَ تتَفَكَّرُوا في مَاهيَة ذاتِهِ) . إذ كُنه الربوبية محجوبٌ عن العقول . فلا سبيل إلى إدراكه ، ولا شكّ أنّ الرسلَ عليهم الصلاة والسلام ن حجُبٌ لقومهم ن ولكن المصطفى صلى الله عليه وسلم ، هو أعظم منهم ، كما قال الشيخ رضي الله عنه ، ثم وصفه يشدّة القرب و الأدب فقال :"الأعْظَمُ القَائِمِ ، لَكَ بيْنَ يَدَيْكَ" أدباً وتعظيماً ، وواسطةً بينَك وبينَ خلقكَ ، وتَرجُماناً في تبليغ أحكامك .