في بيان التّوبة والتّلقين
اعلم أن المراتب المذكورة لا تحصل إلا بالتوبة النصوح وبالتلقين من أهله كما قال الله تعالى :(وأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى) - أي : كلمة لا إله إلا الله - بشرط أخذه من قلب تقيّ نقيّ ممّا سوى الله، لا كل كلمة تسمع من أفواه العامّة، وإن كان اللفظ واحدا ولكن المعنى متفاوت، لأن القلب إنما يحيى إذا أخذ بِذَر التوحيد من قلب حيّ، فيكون بَذْراً كاملاً، والبَذْرُ غير بالغ لا ينبت، ولذلك بَذَرَ كلمة التّوحيد في القرآن العظيم في موضعين.
أحدهما : مقارن بالقول الظّاهريّ كما قال الله تعالى :( إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلا الله) فهذا في حقّ العوّام .
والثاني : مقرون بالعلم الحقيقيّ كما قال الله تعالى :(فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) فهذا التلقين بسبب نزول هذه الآية لأجل التّلقين للخواصّ كما قال في بستان الشّريعة :(أول من تمنّى أقرب الطريق وأفضلها وأسهلها من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم "عليّ بن أبي طالب" رضي الله عنه فانتظر النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم فنزل جبرائيل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولقّن هذه الكلمة ثلاث مرات، ثم قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما قال جبرائيل، ثم لقّن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليّاً رضي الله عنه، ثم جاء إلى أصحابه فلقّنهم جميعاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :(رَجَعْنَا مِنَ الجِهَادِ الأَصْغَرِ إِلَى الجِهَادِ الأَكْبَرِ) والمراد من الجهاد الأكبر جهاد النفس كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :(أَعْدَى أَعْدائِك نَفْسُكَ التي بَيْنَ جَنْبَيْكَ). فلا تحصل محبّة الله تعالى إلا بعد قهر الأعداء في وجودك من النفس الأمّارة واللوامة والملهمة، فتطهّر من الأخلاق الذّميمة البهيميّة، كمحبّة زيادة الأكل والشّرب والنّوم، واللّغو والسّبعيّة كالغضب والشّتم والضّرب والقهر، والشيطانيّة كالكبر والعُجب والحسد والحقد وغير ذلك من الآفات البدنية والقلبيّة. وإذا تطهّرت منها فقد تطهّرت من أصل الذنوب، فأنت من المتطهّرين والتّوابين كما قال الله تعالى :( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ).فمن تاب عن مجرّد ظاهر الذنب لا يدخل فى هذه الآية، وإن كان تائبا، لكن ليس بتوّاب. فإنه لفظ المبالغة، والمراد منه توبة الخواصّ.
مثال من يتوب عن مجرّد الذنوب الظاهرة كمن يقطع حشيش الزرع من فرعه ولا يشتغل بقلعه من أصوله، فينبت ثانيا لا محالة، بل أكثر ممّا ينبت أوّلا.
ومثال التوّاب من الذنوب والأخلاق الذميمة كمن يقطعه من أصوله، فلا جرم أنّه لا ينبت بعده إلاّ نادراً.
فالتلقين آلة قطع ما سوى الله تعالى من قلب المتلقن ؛ لأن من لم يقطع الشجر المرّ لا يصل إلى الشجر الحلو موضعه، فاعتبر، فافهم، كما قال الله تعالى : ( وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ)وكما قال الله تعالى :(مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فأولئك يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ).
فالتّوبة على نوعين : توبة العوّام . وتوبة الخواصّ.
فتوبة العوّام : أن يرجع من المعصيّة إلى الطاعة، ومن الذّميمة إلى الحميدة، ومن الجحيم إلى الجنّة، ومن راحة البدن إلى مشقّة النفس بالذّكر والجهد والسّعي القويّ.
وتوبة الخوّاص : أن يرجع بعد حصول هذه التّوبة من الحسنات إلى المعارف، ومن المعارف إلى الدرجات، ومن الدرجات إلى القربة، ومن القربة واللذّات النّفسانيّة إلى اللذّات الروحانيّة، وهو ترك ما سوى الله تعالى والأُنس به، والنظر إليه بعين اليقين.
وهؤلاء المذكورات من كسب الوجود ، وكسب الوجود ذنب كما قيل : "وجودك ذنب لا يقاس به ذنب آخر" كما قالوا: "حسنات الأبرار سيئات المقرّبين، وسيّئات المقرّبين حسنات الأبرار". ولذلك كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يستغفر كل يم مئة مرّة كما قال الله تعالى :( وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ) أي : لذنب وجودك - وهذا هو الإنابة ؛ فإنّ الإنابة الرّجوع عن كل ما سوى الله إليه، والدخول في سلم القربة في الأخرة، والنظر إلى وجه الله تعالى كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: "إن لله عبادا أبدانهم في الدُّنْيَا وَقُلُوبُهُمْ تحت العرش ".فإن رؤية الله لا تحصل في الدنيا، بل تحصل رؤية صفات الله تعالى في مرآة القلب كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه :"رأى قلبي ربّي" - أي : بنور ربّي . فالقلب مرآة لعكس جمال الله تعالى .
وهذه المشاهدة لا تحصل إلا بتلقين شيخ واصل مقبول من السّابقين، ثمّ رُدّ إلى تكميل النّاقصين بأمر الله تعالى ، وبواسطة نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم.
فإن الأولياء للخواص مُرسَلون لا للعوام، فرقا بين النبيّ والوليّ ؛ فإن النبي يُرسَل إلى العلوم والخواص جميعا مستقلاً بنفسه والوليّ المرشد يرسل للخواص فقط غير مستقل بنفسه ؛ فإنه لا سَعة إلا بمتابعة النبيّ، حتى لو ادّعى الاستقلال كفر، وإنما شبه النبي صلى الله عليه وآله وسلم علماء أمته بأنبياء بني إسرائيل لأنهم كانوا متابعين لشريعة المُرْسَلْ وهو موسى عليه الصلاة والسلام، لكن علماؤهم كانوا يجدّدونها، ويؤكدون أحكامها من غير إتيان بشريعة أخرى ، فكذا علماء هذه الأمة من الأولياء، يُرسلون للخواص لتجديد الأمر والنهي واستحكام العمل على التأكيد الأبلغ، وتصفية أهل الشريعة. وهي في القلب موضع المعرفة، وهم يخبرون بعلم النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلّم كأصحاب الصّفّة كانوا ينطقون بأسرار المعراج قبل عروج النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فالولّي كامل الولاية المحمّديّة التي هي جزء النّبوّة ، وباطنه أمانة عنده ، وليس المراد منه من ترسّم بظاهر العلم ، لأنَّه وإن كان من الورثة النّبويّة لكن هو من قبيل ذوي الأرحام ، فالوارث الكامل من يكون بمنزلة الابن لأنه من أقرب العصبات ، فالولد سرّ الأب ظاهراً وباطناً ، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم : ( إِنَّ مِنَ الْعِلْمِ كَهَيْئَةِ الْمَكْنُونِ ، لا يَعْرِفُهُ إِلا الْعُلَمَاءُ بِاللَّهِ ، فَإِذَا نَطَقُوا بِهِ لَمْ يُنْكِرْهُ إِلا أَهْلُ الْغِرَّةِ بِاللَّهِ ) . وهذا هو السّرّ الذي استُودع في قلب النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلّم ليلة المعراج في أبطن البطون الثلاثين ألفاً ، لم يفشها على أحدٍ من العامّة سوى أصحابه المقّربين وأصحاب الصّفّة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ونفعنا الله ببركاتهم وأفاض علينا من برِّهم وإحسانهم آمين يا رب العالمين آمين . وببركة ذلك السّرّ قيام الشّريعة المطهرة إلى يوم القيامة .
فالعلم الباطن يهدي إلى ذلك السّرّ، وكل العلوم والمعارف كلها قشر ذلك السّرّ، وأمّا العلماء الظاهرة منهم ورثة السّرّ، بعضهم بمنزلة صاحب الفروض، وبعضهم بمنزلة العصابات، وبعضهم بمنزلة ذوي الأرحام موكلون على قشور العلم بالدعوة إلى سبيل الله تعالى بالموعظة الحسنة، والمشايخ السنية المتسلسلة سلسلتهم إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه موكلون بمغزى العلم على باب العلوم بالدعوة إلى الله تعالى بالحكمة كما قال الله تعالى :(ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) وقولهم في الأصل واحد، وفي الفرع مختلف، وهذه المعاني الثلاثة في الآية كانت مجموعة في ذات النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلم ُيعْطَ أحد بعده جملة ذلك، فقُسّم على ثلاثة أقسام :
القسم الأول : وهو لبّها : وهو علم الحال، أعطي للرّجال، وهمّة الرّجال به كما قال رسول الله صلى الله عليه وىله وسلم :(هِمَّةُ الرِّجالِ تَقْلَعُ الجِبالَ) والمراد من الجبال قساوة القلب يمحو بدعائهم وتضرعهم كما قال الله تعالى: ( وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا).
والقسم الثاني : قشر ذلك اللب : أعطي للعلماء الظاهرة، وهو الموعظة الحسنة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قال رسول الله صلى الله عليه وىله وسلم :(العالِمُ يَعِظُ بالعِلْمِ والأَدَبِ ، والجاهِلُ يَعِظُ بالضَّرْبِ والغَضَبِ).
والقسم الثالث : وهو قشر القشر وقد أعطي للأمراء، وهو العدل الظاهري، والسياسة المشار إليها بقوله تعالى: (وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) فلهم مظاهر القهر، وسبب صيانة نظام الدّين كالقشر الأخضر من الجوز، ومقام العلماء الظاهر كالقشر الأحمر الشديد، ومقام الفقراء من المتصوّفين العارفين هو المغزى المقصود من خلف الشّجر وهو اللّبّ؛ ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وىله وسلم :(عليكم بمجالسة العلماءِ ، واستماعِ كلامؤ الحُكماءِ ، فإن الله تعالى يُحيي القلبَ المَيْتَ بنورؤ الحكمةِ. كما يحيي الأرضَ المَيْتَةَ بماءِ المطَرِ) وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :(كَلمةُ الحِكمَةِ ضالّة الحكيم أضخدَها حيثُ وجدَها) والكلمة التي في أفواه العوام نزلت من اللوح المحفوظ وهو عالم الجبروت من الدرجات، والكلمة التي في أفواه الرجال الواصلين نزلت في اللوح الأكبر بلسان القدس بلا واسطة في القربة، فكل شيء يرجع إلى أصله، ولذلك طلب أهل التلقين فرض بحياة القلب كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :(طلبُ العلمؤ فريضَةٌ على كُلِّ مُسلِمٍ ومُسلِمةٍ)والمراد منه علم المعرفة والقربة والبواقي من العلوم الظاهرة لا يحتاج إليها إلا ما يؤدّي بها الفرائض كما قال الإمام الغزالي رحمة الله عليه :
حياةُ القلبِ علمٌ فادَّخرهُ
وموت القلب جهلٌ فاجتَنِبْهُ
وخيرُ مراددِكَ التَّقوَى فَزِدْهُ
كفاكَ بماوَعَظتُكَ فاتَّعِظْهُ
كما قال تعالى :(وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) فرضاء الله تعالى أن يجاوز عبيده إلى القربة، ولا يلتفت إلى الدرجات كما قال تعالى :(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) وكما قال تعالى :(قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ).