وليس هذا طب جالينوس
وإنما يختص بالنفوس
قلت : نبه رحمه الله على أن هذا الطلب الذي ذكر ليس هو طب الأبدان الذي كان يعرفه جالينوس الحكيم ،وإنما هو طب النفوس لتصلح لحضرة القدوس ، وطب القلوب لتصح من الأمراض والعيوب، وتتهيأ لدخول حضرة علام الغيوب، فتنخرط في سلك {مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} ويكون {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ}، في جوار الكريم، متعنا الله بالسكنى في حضرته في الدنيا والآخرة.
ثم ذكر قلة هذا الطب في زمانه، فقال:
فهكذا الشيوخ قدما كانوا
يا حسرتي إذ سالفوا وبانوا
قلت: الإشارة تعود على ما ذكر في الفصل في أحكام الشيوخ، من معرفتهم بالطرق ومسالكها : سهلها ووعرها، ومعرفتهم بطب القلوب وأنواع الأدوية والعقاقير، وعلمهم بعلل النفوس وأمراضها، ثم تأسف وتحسر على ذهابهم، أي فراقهم دار الدنيا، وسكناهم دار البقاء، ولكن لا تخلو الأرض من قائم لله بحجته، كما قال سيدنا علي كرم الله وجهه.
وقد وردت أخبار في مدح مقام الشيوخ والتنويه بقدرهم عند الله.
قال في "العوارف" : ورد في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : {والذي نفس محمد بيده لئن شئتم لأقسمن لكم، إن أحب عباد الله إلى الله الذين يحببون الله إلى عباده، ويحببون عباد الله إلى الله، ويمشون في الأرض بالنصيحة}.
وهذا الذي ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم هو رتبة المشيخة والدعوة إلى الله، لأن الشيخ يحبب الله إلى عباده حقيقة، ويحبب عباد الله إلى الله، ورتبة المشيخة والدعوة من أعلى الرتب في طريق الصوفية ونيابة النبوة في الدعاء إلى الله.
فأما وجه كون الشيخ يحبب عباد الله إلى الله لأن الشيخ يسلك بالمريد طريق الاقتداء برسةل الله صلى الله عليه وسلم، ومن صح اقتداؤه واتباعه أحبه الله، قال الله تعالى :{ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}.
ووجه كونه يحبب الله تعالى إلى عباده، لأنه يسلك بالمريد طريق التزكية، وإذا تزكت النفس، انجلت مرآة القلب، وانعكس فيها نور العظمة الإلهية، ولاح فيها جمال التوحيد، وذلك ميراث التزكية، قال الله تعالى :{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا}، وفلاحها بالظفر بمعرفة الله، وأيضاً مرآة القلب إذا نجلت لاحت فيها الدنيا بقبحها، وحقيقتها وما هيتها، ولاحت الآخرة بنفاستها بكنهها وغايتها، فينكشف للبصيرة حقيقة الدارين، وحاصل المنزلين، فيحب العبد الباقي ويزهد في الفاني، فتظهر فائدة التزكية وجدوى المشيخة والتربية، فالشيخ من جنود الله تعالى، يرشد به المريدين، ويهدي به الطالبين.
فعلى المشايخ وقار الله، وبهم يتأدب المريد،ظاهراً وباطناً، قال الله تعالى :{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} فالمشايخ لما اهتدوا أهلوا للاقتداء بهم، وجعلوا أئمة المتقين.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حاكياً عن ربه عز وجل :{إِذَا كَانَ الْغَالِبُ عَلَى عَبْدِي الاشْتِغَالُ بِي جَعَلْتُ هِمَّتهُ وَلَذَّتَهُ فِي ذِكْرَى ، فَإِذَا جَعَلْتُ هِمّتههُ وَلَذَّتَهُ فِي ذِكْرِي عَشِقَنِي وَعَشِقْتُهُ ، ورَفَعْتُ الْحِجَابَ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ ، لا يَسْهُو إِذَا سهى النَّاسُ ، أُولَئِكَ كَلامُهُمْ كَلامُ الأَنْبِيَاءِ ، أُولَئِكَ الأَبْطَالُ حَقًّا ، أُولَئِكَ الَّذِينَ إِذَا أَرَدْتُ بِأَهْلِ الأَرْضِ عُقُوبَةً أَوَعَذَابًا ذَكَرْتُهُمْ فَصَرَفْتُهُ بِهِمْ عَنْهُمْ}.
** ** **
لفتوحات الإلهية في شرح المباحث الأصلية