آخر الأخبار

جاري التحميل ...

الحرية الروحية في التصوف الاسلامى

تعريف مفهوم الحرية : تعددت تعريفات الحرية، ومرجع هذا التعدد تعدد أبعادها (بتعدد أبعاد الوجود الإنساني الذي ترتبط به) ، و تركيز كل تعريف على أحد هذه الأبعاد .و التعريف الذي نأخذ به هو تعريفها بأنها ليست المقدرة على الفوضى بل المقدرة التطور أو الترقي، أى الفعل الغائي الذي مضمونه إشباع الحاجات أو تحقيق الغايات أو حل المشاكل.
أبعاد مفهوم الحرية : 

البعد المادي : هو المقدرة على التطور المادي ( أي المقدرة على إشباع الحاجات المادية أو تحقيق الغايات والمثل العليا المحدودة بالزمان والمكان ، أو حل المشاكل المادية ) 
البعد الروحي : أي المقدرة على إشباع الحاجات الروحية أو السعي لتحقيق الغايات والمثل العليا المطلقة أو حل المشاكل المعنوية والروحية. 
البعد السلبي : هو التحرر من القيود المفروضة على مقدره الإنسان على التطور.
البعد الايجابي : هو استمرارية هذه المقدرة.
البعد الذاتي :هو تصور الذات لهذه الغايات أو الحاجات أو الحلول . 
البعد الموضوعي : الفعل اللازم لإشباع الحاجات او تحقيق الغايات أو حل المشاكل. 
البعد الفردي : هوالترقي الفردي :أي إشباع الحاجات أو حل المشاكل الخاصة. 
البعد الجماعي : هو الترقي الاجتماعي : أي إشباع الحاجات أو حل المشاكل العامه.


التصور الاسلامى للحرية :
 أما التصور الاسلامى فانه يقر بالتعريف السابق لكنه يضيف: 

أولا : أن هذه المقدرة ليست مطلقه بل محدودة( مقيده):
أ - تكوينيا بالسنن الالهيه (الكلية والنوعية) التي تضبط حركه الوجود الشامل للطبيعة المسخرة والإنسان المستخلف.
ب -  تكليفيا بالقواعد والقيم التي مصدرها أصول الدين ممثله في النصوص يقينية الورود قطعيه الدلالة .
ثانيا : أن هذا التحديد هو ضمان أو ضابط موضوعي مطلق لتوافر هذه المقدرة،وبالتالي تحقيق الحرية،بتحقيق التوازن بين أبعادها المتعددة (مفهوم الوسطية). ومن هذه الضوابط التكليفيه المفاهيم ألقرانيه الكلية الثلاثة(التوحيد والتسخير والاستخلاف)، فالتوحيد هو إفراد الربوبية و الالوهيه لله تعالى ، ومضمون توحيد الالوهيه أن الله تعالى ينفرد بكونه الغاية المطلقة لكل وجود سواه ،وهو ضمان موضوعي مطلق لتحقيق الوجه السلبي للحرية (على المستوى الذاتي) والمتمثل في تحرير الذات من الغايات المطلقة الزائفة،وهو ما عبر عنه القرآن باجتناب الطاغوت.أما توحيد الربوبية فمضمونه إفراد الفعل المطلق لله تعالى،وهو ضمان موضوعي مطلق لتحقيق الوجه السلبي للحرية(على المستوى الموضوعي)،والمتمثل في تحرير الفعل الإنساني من أي فعل مطلق زائف،وهو ما عبر عنه القرآن بالاستكبار. أما مفهوم التسخير فيترتب عليه قاعدتان مرتبطتان بمفهوم الحرية هما:الموضوعية التي يترتب عليهما أن حرية الإنسان لا تتحقق بانفصاله عن العالم الطبيعي وقوانينه. والسببية التي يترتب عليها أن التصور الإسلامي يرى أن الضرورة( ممثله في انضباط حركه الوجود الشهادى بسنن إلهيه لا تتبدل) هي شرط للحرية، اى أن الإنسان لن ينجح في تحقيق حريته إلا بمعرفه والتزام حتمية هذه السنن الإلهيه.أما مفهوم الاستخلاف فمضمونه:أولا: إظهار الالوهيه بالعبادة،التي معناها العام اتخاذ الله تعالى غاية مطلقه، دون أن تتوافر له أمكانية التحقيق النهائي لها ، و العبادة على هذا الوجه ضمان موضوعي مطلق لتحقيق الوجه الايجابي للحرية(على المستوى الذاتي)، والمتمثل في أن اتخاذ الله تعالي غاية مطلقة، يمد ألذات بإمكانيات غير محدودة للتطور، لأنه لا تتوافر للذات الإنسانية إمكانية التحقيق النهائي،فضلاً عن تجاوزها. ثانيا:إظهار الربوبية بالعبودية:ولا تعنى إلغاء الفعل الانسانى بل تحديده ،وذلك باتخاذ مقتضى صفات الربوبية ضوابط موضوعيه مطلقه للفعل الانسانى. والعبودية على هذا الوجه ضمان موضوعي مطلق لتحقيق الوجه الايجابي للحرية(على المستوى الموضوعي)، والمتمثل في أن إسناد الفعل المطلق لله تعالى يثمر إطلاق الفعل الإنساني،أي يمده بإمكانيات غير محدودة للتطور، كما أنه ضمان موضوعي مطلق للمساواة بين الناس.
التصور الصوفي للحرية : التصوف الاسلامى كجزء من الفكر الاسلامى اختار التركيز على نسق الأبعاد (الروحية،السلبية،الذاتية،الفردية) للحرية ، ولكن تباينت المواقف الصوفية من نسق الأبعاد (المادية،الايجابية الموضوعية،الاجتماعية )، بين التركيز على الأبعاد الأولى دون إلغاء الأبعاد الثانية ،أو التطرف في التأكيد على الأبعاد الأولى إلى درجه إلغاء الأبعاد الثانية، ومرجع هذا التباين.

أولا : مدى تأثر تياراته بالمفاهيم الأجنبيه : التصوف الإسلامي كجزء من الفكر الإسلامي، أثر وتأثر بالفكر الإنسانى. غير أن طبيعة هذا التأثير المتبادل اختلق باختلاف التيارات المختلفة للتصوف الإسلامي ، حين نجد أن تيار التصوف السني انطلق أولاً من المفاهيم الإسلامية ، ثم تأثير في صياغته لهذه المفاهيم بمصادر غير إسلامية، بينما نجد أن التيار الذي أطلق عليه اسم (التصوف الفلسفي) انطلق من مفاهيم مستمدة من المصادر الأجنبية ، ثم حاول تنميه وتطوير هذه المفاهيم لتتفق مع الدين الاسلامى، أي أن عملية التنمية والتطوير لم يكن بعد الانطلاق من المفاهيم الإسلامية إنما تالياً لها، و على سبيل المثال تأثر التصوف الفلسفي بتصور أفلاطون للحرية، القائم على نظريه المثل ، القائلة بان للوجود قسمان: عالم المثل ذو الوجود الحقيقي، والعالم المحسوس الذي هو مجرد ظلال وإشباع تحاكى المثل وليس له وجود حقيقي، ومصدر اعتقادنا بكونه حقيقي خداع الحواس. ومضمون هذا التصور أن المادة( الجسم) هي مصدر العبودية، و الروح هي مصدر الحرية . والإنسان لا يحقق الحرية إلا بالتحرر من المادة والجسد( يتحقق التحرر الجزئي بالزهد والتأمل و يتحقق التحرر الكلى بالموت).فهو تصور يقوم على التطرف في التأكيد على الأبعاد (الروحية،السلبية،الذاتية،الفردية) إلى درجه إلغاء الأبعاد (المادية،الايجابية الموضوعية،الاجتماعية )، وهو تصور يخالف التصور الاسلامى للحرية الذي يهدف إلى تحقيق التوازن بين الأبعاد المختلفة للحرية

 ثانيا : مراحل تطوره : وقد ساهم التصوف في إغناء الفكر الإسلامي بمذاهب وقيم جديدة إبان فتره التقدم الحضاري للمجتمعات المسلمة؛ غير أن توقف هذه المجتمعات عن التقدم لعوامل ذاتية وموضوعيه مختلفة أدى إلى تجمد الفكر الإسلامي وبالتالي المذاهب الصوفية على مضامين كسبتها في مراحل سابقة؛ فأصبحت قاصرة عن أن توفى بحلول لمشاكل الحياة في فتره تالية، وهو ما ساهم في ظهور بعض البدع وبعض أنماط التفكير و السلوك الخرافي والأسطوري في بعض المذاهب المنسوبة إلى الفكر الصوفي،كالقول بالجبر وإسقاط التدبير..وهذه الأنماط المعرفية والسلوكية السلبية قام أعلام التصوف السني بنقدها.

ثالثا : مدى التقيد بالضوابط التكليفيه والتكوينية: فقد وضع الإسلام جمله من الضوابط التكليفيه والتكوينية، لضمان تحقيق التوازن بين الأبعاد المتعددة للحرية. أما موقف الصوفية من هذه الضوابط فيتمثل في أن أعلام التصوف قد شددوا على ضرورة الالتزام بهذه الضوابط التكليفيه(الأوامر النواهي التي جاء بها الوحي) والتكوينية(معرفه والتزام السنن الالهيه التي تضبط حركه الوجود) ، لكن تحررت بعض المذاهب المنسوبة للتصوف من هذه الضوابط التكليفيه، والتكوينية،.وهو الأمر الذي نقده أعلام التصوف السني.

الأبعاد السلبية والايجابية للحرية:

البعد السلبي للحرية (التحرر من القيود المفروضة على مقدره الإنسان على التطور) . لا يلغى البعد الايجابي لها (استمرارية هذه المقدرة ( فكلاهما متساويان في القيمة، واولويه البعد الأول على البعد الثاني اولويه ترتيب لا اولويه تفضيل .وقد اختار أعلام التصوف تأكيد البعد السلبي للحرية، كما يتضح من تعريفهم الحرية بأنها الانطلاق من رق .... أو الحرية من... ". لكن تباين الموقف من البعد الايجابي لها ، ففي حين أكدت كثيرمن المذاهب الصوفية على البعد الأول دون أن تلغى البعد التانى ، تطرفت بعض المذاهب المنسوبة إلى التصوف في تأكيد البعد الأول لدرجه إلغاء البعد الثاني وهو ما يتمثل في تحرر هذه المذاهب من هذه الضوابط التكليفيه(بالقول بسقوط التكاليف) والتكوينية(بالقول بخرق العادة )، وهو الأمر الذي نقده أعلام التصوف السني. 

الجبر : المنهج الإسلامي لا يرى أن ثمة تناقضا بين كون الله تعالى ذو قدره مطلقه، وقدرة الإنسان على الاختيار والفعل ، فالله تعالى هو خالق فعل الإنسان من جهة السنن التي يتعلق نجاح الفعل أو فشله عليها هي ظهور لصفة الخلق، والإنسان كاسب فعله من جهة أن معرفته حتمية هذه السنن ثم التزامها هما شرطان لكي ينجح في تحقيق ما يريد على مقتضى هذه السنن.وقد كان هذا موقف كثير من أئمه التصوف والمذاهب الصوفية ،غير انه قد تسرب إلى التصوف بصوره خاصة والفكر الإسلامي بصوره عامه القول بالجبر، أي القول بأنه يرتب على كون الله تعالى خالق أفعال الإنسان، وأنه ذو قدرة مطلقة إلغاء قدرة الإنسان على الفعل وإحالته إلى آلة لا إرادة لها .وقد ساهم في هذا التسرب عده عوامل ، ففي إطار التصوف الفلسفي تأثر البعض ببعض المفاهيم الاجنبيه ، كنظرية وحدة الوجود القائمة على إفراد الوجود لله ،والتي يترتب عليها إفراد الفعل لله تعالى ،واعتبار أن إسناده إلى سواه هو شرك في الربوبية، أما في إطار التصوف السني فإننا نجد أن موقف الإمام الأشعرى رغم اتساقه مع المنهج الإسلامي في القول بأن الفعل الإنساني هو محصلة لخلق الله تعالى وكسب الإنسان، إلا أن تعريفه للكسب بأنه مقارنة قدرة الإنسان للفعل الإلهي ، يمهد إلى إلغاء الكسب نفسه أي إلى الجبر.

الأبعاد ألروحيه والمادية للحرية:
البعد الروحي للحرية (المقدرة على التطور أو الترقي الروحي: اى المقدرة على إشباع الحاجات الروحية ،أو السعي لتحقيق الغايات والمثل العليا المطلقة ( لا يلغى البعد المادي لها )المقدرة على التطور المادي:اى إشباع الحاجات المادية أو تحقيق الغايات والمثل العليا المحدودة بالزمان والمكان أو حل المشاكل المادية ،( بل يحدده كما يحدد الكل الجزء فيكمله ويغنية. فهو يتم عندما تأخذ حركه الإنسان شكل فعل غائي ذو ثلاث خطوات : المشكلة، الحل، العمل) محدود (تكوينيا وتكليفيا) بالفعل المطلق (الربوبية) والغاية المطلقة (الألوهية) . وقد اختار أعلام التصوف تأكيد البعد الروحي للحرية، لكن تباين الموقف من البعد المادي لها ، ففي حين أكدت كثير من المذاهب الصوفيه على البعد الأول دون أن تلغى البعد الثاني ، وجعلت العلاقة بينهما علاقة تحديد و تكامل ، تطرفت بعض المذاهب المنسوبة إلى التصوف في تأكيد البعد الأول لدرجه إلغاء البعد الثاني ،فجعلت العلاقة بينهما علاقة تناقض وإلغاء.
 المقامات والأحوال : هي درجات ( مراحل ) هذا التطور أو الترقي الروحي ، استنادا إلى تقرير القرآن أن الوجود الإنساني ينبغي أن يكون في صعود دائم عبر درجات‏ ‏{‏‏يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ‏} .﴿وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ﴾ . وهذه الدرجات بعضها ذو طابع ذاتي هي الأحوال .وبعضها ذو طابع موضوعى هي المقامات . فالأحوال : تمثل الدرجات الذاتية لهذا الترقي الروحى ، متمثله في الأنماط الانفعالية والمعرفية التي تجئ كمحصله لالتزام الإنسان بمجموعه من القواعد التي تحدد للإنسان ما ينبغى أن يكون عليه وجدانه وتفكيره. بينما المقامات تمثل درجاته الموضوعية متمثله فى الأنماط السلوكية التي تجئ كمحصله لالتزام الإنسان بمجموعة القواعد التي تحدد له ما ينبغى أن يكون عليه سلوكه .يقول السراج الطوسي في "اللمع" :إن قيل ما معنى المقامات ؟يقال : معناه مقام العبد بين يدي الله عز وجل,فيما يقام فيه من العبادات والمجاهدات والرياضيات والانقطاع إلى الله عز وجل، قال الله تعالى: (ذَٰلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ ) ( سورة إبراهيم /14) وقال :( وَمَا مِنَّا إِلا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ ) ( الصافات / 164 ). ومن المقامات: التوبة – الورع – الزهد – الفقر – الصبر – الرضا – التوكل...الخ.أما الحال :فهي معنى يرد على القلب من غير تصنع ولا اكتساب...وقد حكي عن الجنيد رحمه الله أنه قال :" الحال نازلة تنزل بالقلوب فلا تدوم...وليس الحال من طريق المجاهدات والعبادات والرياضيات كالمقامات".من الأحوال :المراقبة – القرب – المحبة – الخوف – الرجاء – الشوق – الأنس – الطمأنينة – المشاهدة – اليقين...الخ(. . أما في الرسالة القشيرية فلقد جاء :"أن المقام ما يتحقق به العبد بمنازلته من الآداب، مما يتوصل إليه بنوع تصرف، ويتحقق به بضرب تطلب، ومقاساة تكلف . فمقام كل أحد : موضع إقامته عند ذلك، وما هو مشتغل بالرياضة له.وشرطه أن لا يرتقي من مقام إلى مقام آخر ما لم يستوف أحكام ذلك المقام...ولا يصح لأحد منازلة مقام إلا بشهود إقامة الله تعالى إياه بذلك المقام، ليصح بناء أمره على قاعدة صحيحة".أما الحال عند الصوفية فهي "معنى يرد على القلب، من غير تعمد منهم، ولا اجتلاب،ولا اكتساب لهم...فالأحوال مواهب، والمقامات مكاسب. وقالوا :الأحوال كإسمها (يعني أنها كما تحل بالقلب تزول في الوقت) .والقول بالتطور أو الترقي الروحي يتم عبر درجات (الأحوال والمقامات) لا يترتب عليه إلغاء الترقي أو التطور المادي في حاله تصور إن كل مقام أو حال لا ينعدم بالترقي إلى مقام أو حا ل آخر وإنما يندرج تحت الأعلى فيصبح الأخير متضمن له تضمن الكل لجزئه ، ولكنه يلغي التطور المادي في حاله تصور انعدام المقام أو الحال بالترقي إلى المقام أو الحال الأعلى. وقد نبه ابن القيم إلى هذا الأمر بقوله :( فإن المقام الأول لا ينعدم بالترقي إلى آخر ولو عدم لخلفه ضده، وذلك رجوع إلى نقص الطبيعة وصفات النفس المذمومة، وإنما يندرج حكمه في المقام الذي هو أعلى منه فيصبح الحكم له...أن أعلى المقامات مقرون بأدناها مصاحب له كما تقدم متضمن له تضمن الكل لجزئه ومستلزم له استلزام الملزوم لازمه، لا ينفك عنه أبداً ، ولكن لاندراجه فيه، وانطواء حكمه تحته، يصير المشهد والحكم للعالي).

الحلول والاتحاد والوحدة:

هذا التطور أو الترقي الروحى الذي مضمونه اتخاذ الله تعالى غاية مطلقة ،لا يلغى التطور المادي، فهو يمد ألذات الانسانيه بإمكانيات غير محدودة للتطور، لأنه لا تتوافر لهذه الذات إمكانية التحقيق النهائي لها ،فضلاً عن تجاوزها، يقول ابن القيم :(فإن السالك لا يزال سائراً إلى الله تعالى حتى يموت ولا ينقطع سيره إلا بالموت فليس في هذه الحياة وصول يفرغ معه السير وينتهي) أما القول بان لهذا التطور أو الترقي الروحي نهاية ، أي أنه تتوافر للذات الإنسانيه إمكانيه التحقيق النهائي لهذه الغاية المطلقة كما هو الحال في مذاهب الحلول" إمكانية حلول روح الله تعالى في الإنسان".او الاتحاد"إمكانية اتخاذ الذات الإنسانية بالذات الإلهية".او وحدة الوجود"أن هنالك وجود حقيقي واحد هو وجود الله تعالى أما وجود المخلوقات فهو وهمي مصدره خداع الحواس" فإنه يترتب عليه إلغاء الترقي أو التطور المادي ، وبالتالي إلغاء البعد المادي للحرية لأنه يترتب عليه إنكار الموضوعية ،أى إنكار أن للعالم وجود مستقل عن الوعي غير متوقف عليه وسابق عليه فى الوجود، ويترتب علي هذا إلغاء الحرية ، إذ أن حرية الإنسان لا تتحقق بانفصاله عن العالم الطبيعي وقوانينه ، وهو الأمر الذي قرره كثير من أعلام التصوف السني يقول المناوي: (فالدنيا لا تُذَمّ لذاتها فإنها مزرعة الآخرة، فمن أخذ منها مراعياً للقوانين الشرعية أعانته على آخرته، ومن ثَمَّةَ قيل: لا تركن إلى الدنيا، فإنها لا تبقى على أحد، ولا تتركها فإن الآخرة لا تنال إلا بها) (فيض القدير شرح الجامع الصغير" ج3/ص545).. 

السببية : وقد اقر كثير من أعلام التصوف السني بالسببية ، لكن يرى بعض الباحثين أن بعض أعلام التصوف السني قد أنكر ألسببيه مطلقا ، بينما يرى باحثون اخرون انه قد تم تفسير أقوال هؤلاء الأعلام على وجه خاطئ ، وفى كل الأحوال فان بعض المذاهب المنسوبة إلى التصوف تنكر السببية مطلقا وهو الأمر الذي يترتب عليه إلغاء البعد المادي للحرية،إذ أن الضرورة( ممثله في انضباط حركه الوجود الشهادى بسنن إلهيه لا تتبدل) هي شرط للحرية، اى أن الإنسان لن ينجح في تحقيق حريته إلا بمعرفه والتزام حتمية هذه السنن الالهيه

التوكل :التوكل من القيم الاسلاميه التي دعا إليها القران والسنة ( وعلى اللهِ فليَتَوَكَّلِ المتوكِّلونَ)(المائدة: 23)، و جاء رجل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم على ناقة له فقال :" يا رسول الله أأرسل ناقتي وأتوكل ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "أعقلها وتوكل)"رواه الترمذي في كتاب صفة القيامة. وقال: غريب .وهو لا يتناقض مع البعد المادي للحرية، لأن مضمونه ليس إلغاء الإراده الإنسانيه بل تقييدها بالإراده الإلهيه في شكلها التكليفى: بمعرفه والتزام القواعد الأمر والناهية التي جاء بها الوحي. والتكويني: بمعرفه والتزام حتمية السنن الالهيه التي تحكم حركة . غير أن هناك بعض المذاهب المنسوبة للتصوف التي جاءت بفهم خاطئ للتوكل بمعنى إلغاء الفعل والاراده الانسانيه، وعدم الأخذ بالأسباب، وقد قام أعلام التصوف السني بنقد هذه المذاهب وفهمها الخاطئ للتوكل ، يقول الإِمام الغزالي: (قد يظن الجهال أن شرط التوكل ترك الكسب وتركُ التداوي والاستسلامُ للمهلكات. وذلك خطأ لأن ذلك حرام في الشرع، والشرع قد أثنى على التوكل، وندب إِليه فكيف يُنال ذلك بمحظورة) ("الأربعين في أصول الدين" للغزالي ص246).وقال القاضي عياض: (ذهب المحققون من الصوفية إلى ضرورة السعي فيما لا بد منه، ولكن لا يصح عندهم التوكل مع الالتفات والطمأنينة إلى الأسباب، بل فعل الأسباب سنة الله وحكمته، والثقة بأنها لا تجلب نفعاً، ولا تدفع ضراً، والكل من الله) (دليل الفالحين" ج2 ص3)

الزهد :الزهد قيمه إسلاميه التزم بها الرسول صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح من الصحابة والتابعين ، ومضمونها أن يكون إشباع الإنسان لحاجاته المتجددة زمانا ومكانا ، مقيدا بالقواعد التي حددها الله تعالى مالك المال ، وعلى وجه لا يتناقض مع مصلحة الجماعة ،المستخلفة أصلا فى الانتفاع بالمال .وهى على هذا الوجه لا يتناقض مع البعد المادي للحرية ممثلا في إشباع الإنسان لحاجاته المادية ،وقد التزم الكثير من إعلام التصوف السني بالتصور الاسلامى الصحيح للزهد، يقول العلامة المناوى :(فليس الزهد تجنب المال بالكلية بل تساوي وجوده وعدمه، وعدمُ تعلقه بالقلب إليه، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوة الزاهدين، يأكل اللحم والحلوى والعسل، ويحب النساء والطيب والثياب الحسنة، فخذ من الطيبات بلا سرف ولا مخيلة، وإياك وزهد الرهبان) ("فيض القدير شرح الجامع الصغير" للمناوي ج4/ص72) كما بين الإمام الزهري أن من معاني الزهد الحقيقي أن تشكر الله تعالى على ما رزقك من الحلال، وأن تحبس نفسك عن طلب الحرام قانعاً بما قسم لك من الرزق، فقال حين سئل عن زهد المسلم: (هو أن لا يغلب الحلال شكره، ولا الحرام صبره) "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير مادة زهد) ، لكن هناك بعض المذاهب المنسوبه للتصوف حولت الزهد من مجال كيفيه إشباع هذه الحاجات، إلى مجال إشباع او عدم إشباع هذه الحاجات، فأصبح الزهد عندهم هو عدم إشباع حاجات الإنسان المادية المتجددة ، تحت تأثير مذاهب اجنيه كالرهبانية المسيحية والبراهميه والفلسفة الافلاطونيه، وقد رفض أعلام التصوف السني هذا الفهم الخاطئ للزهد يقول المناوى: (فالزهد فراغ القلب من الدنيا لا فراغ اليد منها، وقد جهل قوم فظنوا أن الزهد تجنب الحلال، فاعتزلوا الناس، فضيعوا الحقوق، وقطعوا الأرحام، وجفوا الأنام، واكفهرُّوا في وجوه الأغنياء، وفي قلوبهم شهوة الغنى أمثال الجبال، ولم يعلموا أن الزهد إنما هو بالقلب، وأن أصله موت الشهوة القلبية، فلما اعتزلوها بالجوارح ظنوا أنهم استكملوا الزهد، فأداهم ذلك إلى الطعن في كثير من الأئمة )فيض القدير شرح الجامع الصغير" ج3/ص73).

الكرامات :اثبت أهل السنة بفرقهم المختلفة (أشاعره ، طحاويه، حنابلة، أهل الظاهر، الماتريديه) كرامات الأولياء، غير أن هناك مذهبين في إثباتها، و بالتالي تفسيرها : المذهب الأول هو الإثبات المطلق :اى إثبات الكرامة دون تقييد مضمونها تكوينيا فالكرامة يمكن أن تتم بانقطاع اضطراد السنن الالهيه التي تضبط حركه الوجود، وهو ما عبر عنه أصحاب هذا التفسير بتعريف الكرامة بأنها " خرق للعادة" والمقصود بالعادة عند أصحاب هذا التفسير العادة المضطرة اى السنن الالهيه.. غير أن هذا التفسير لا يوضح الفرق بين الكرامة والمعجزة، لذا رفضه عدد من متأخري الاشاعرة و المتصوفة منهم السبكي القائل )معاذ الله أن يتحدى نبي بكرامه تكررت على ولي، بل لا بد أن يأتي النبي بما لا يوقعه الله على يد الولي ،و إن جاز وقوعه فليس كل جائز في قضايا العقول واقعا . و لما كانت مرتبة النبي أعلى و أرفع من مرتبة الولي كان الولي ممنوعا مما يأتي به النبي على الإعجاز و التحدي ، أدبا مع النبي)( طبقات الشافعية 2/320(المذهب الثاني هو الإثبات المقيد : اى إثبات الكرامة مع تقييد مضمونها تكوينيا بالتزام بحتمية السنن الالهيه التي تضبط حركه الوجود ، وبالتالي فان الكرامة هي تكريم الله تعالى لشخص صالح دون انقطاع اضطراد السنن الالهيه التي تضبط حركه الوجود.يقول الاسفرائينى (إن الكرامة لا تبلغ مبلغ خرق العادة وإنما هي إجابة دعوة أو موافاة ماء في غير موقع المياه أو ما ضاهي ذلك، وكل ما جاز معجزة لنبي لم يجز كرامة لولي)( الاسفرائينى، الموافقات، ص25) ، وهذا المذهب يقارب رأى عدد من العلماء الذين فرقوا بين الكرامة والمعجزة بان ما جاز معجزه لنبي لا يجوز كرامه لولى ، يقول الإمام النووي (قال الإمام أبو المعالي إمام الحرمين الذي صار إليه أهل الحق جواز انخراق العادة في حق الأولياء ... قال وصار بعض أصحابنا إلي أن ما وقع معجزة للنبي لا يجوز تقدير وقوعة كرامه لولي فيمتنع عند هؤلاء أن ينفلق البحر وينقلب العصا ثعبان ويحي الموتى إلي غير ذلك من آيات الأنبياء كرامة لولي )(الإمام النووي، بستان العارفين، ص 30( وطبقا لهذا التفسير يجوز الأخذ بالتعريف الكرامة بأنها"خرق للعادة"،بشرط أن يكون المقصود بالعادة ما اعتاد عليه الناس لا العادة المضطردة، ورد في شرح العقيدة الطحاويه ( فالمعجزة في اللغة كل أمر خارق للعادة ،وكذلك الكرامة في عرف ألائمه أهل العلم المتقدمين، ولكن كثير من المتأخرين يفرقون في اللفظ بينهما...وجماعها الأمر الخارق للعادة...وإنما ينال من تلك الثلاثة. بقدر ما يعطيه الله ،ويعلمه ما علمه الله إياه، ويستغنى عما أغناه الله ،ويقدر على ما اقدره الله عليه من الأمور المخالفة للعادة المضطردة أو لعاده اغلب الناس ،فجميع المعجزات والكرامات لا تخرج عن هذه الأنواع )( شرح العقيدة الطحاويه ،مكتبه الدعوة الاسلاميه،القاهرة،ص499.( والتفسير الاول للكرامه يتناقض مع البعد المادي للحرية، لأنه ينفى حتمية السنن الالهيه ، بينما التفسير الثاني لا يتناقض معه ، لأنه قائم على الالتزام بهذ الحتمية.


الأبعاد الذاتية والموضوعية للحرية:

البعد الذاتي للحرية(تصور الذات لهذه الغايات أو الحاجات أو الحلول .( لا يلغى البعد الموضوعي لها )الفعل اللازم لإشباع الحاجات او تحقيق الغايات أو حل المشاكل، (.فالعلاقة بينهما لا تخرج عن إطار جدل المعرفة من الموضوعي (المشكلة التي يطرحها الواقع) إلى الذاتي (الحل الذهني) إلى الموضوعي مره أخرى من اجل تغييره (تنفيذ الحل في الواقع بالعمل). وقد اختار أعلام التصوف تأكيد البعد الذاتي للحرية،وهو ما يتضح في تعريفهم الحريه بأنها تحرير النفس من الشهوات ، لكن تباين الموقف من البعد الموضوعي لها، ففي حين أكدت كثير من المذاهب الصوفية على البعد الأول دون ان تلغى البعد الثاني ، تطرفت بعض المذاهب المنسوبه للتصوف في تأكيد البعد الأول لدرجه إلغاء البعد الثاني فسقطت في هوة الذاتية المطلقة ، وكذلك الأخذ بالتصور الهرمي للمعرفة (من الموضوعي إلى الذاتي) كبديل للتصور الجدلي للمعرفة(من الموضوعي إلى الذاتي إلى الموضوعي ( الأبعاد الفردية والجماعية للحرية :البعد الفردي للحرية ) الترقي الفردي:اى إشباع الحاجات أو حل المشاكل الخاصة ( لا يلغى البعد الجماعي لها ) الترقي الاجتماعي: اى إشباع الحاجات أو حل المشاكل العامة (فالجماعة بالنسبة للفرد كالكل بالنسبة للجزء تحده فتكمله وتغنيه ولكن لا تلغيه . وقد اختار أعلام التصوف التأكيد على البعد الفردي للحرية، ممثلا في التركيز على الفرد في تعريف الحرية يقول أبو علي الدقاق(من دخل الدنيا وهو حر ارتحل إلى الآخرة وهو عنها حر)، وقال إبراهيم بن أدهم (إنّ الحر الكريم يخرج من الدنيا قبل أن يخرج منها (،. لكن تباين الموقف من البعد الجماعي لها ،ففي حين أكدت كثبر من المذاهب الصوفية على البعد الأول دون أن تلغى البعد التانى ، وجعلت العلاقة بينهما علاقة علاقة تحديد و تكامل ، تطرفت مذاهب المنسوبه للتصوف في تأكيد البعد الأول لدرجه إلغاء البعد الثاني او العكس ، فجعلت العلاقة بينهما علاقة تناقض وإلغاء ، وذلك من خلال جعل الوجود الفردي كل قائم بذاته مستقل عن الوجود الجماعي ، أو جعل الوجود الجماعي يلغى الوجود الفردي.وكلا الموفقين يتعارض مع تصور أعلام التصوف السني للعلاقة بين الفرد والجماعة. 

د. صبري محمد خليل /أستاذ فلسفه القيم الاسلاميه بجامعه الخرطوم


**    **    **
1. ابن الأثير ،النهاية في غريب الحديث،مادة (زهد)
2. الغزالي،الأربعين في أصول الدين، طبعه مصر،1949.
3. المناوى، فيض القدير شرح الجامع الصغير، الجزء الثالث.
4. القاضي عياض،دليل الفالحين، الجزء الثاني،طبعه مصر، بدون تاريخ.
5. . شرح العقيدة الطحاويه ،مكتبه الدعوة الاسلاميه،القاهرة،بدون تاريخ.

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية