يا غلام : إنما يتبين لك علم الله فيك، إذا رجعت إليه بكل قلبك وهمك، ولازمت باب رحمته، وجعلت بينك وبين الشهوات سدا من حديد، وتجعل القبر والموت نصب عيني رأسك وقلبك، وتراقب نظرات الحقّ عز وجل إليك، وعلمه بك وحضوره عندك وتستغني بالفقر وترضى الإفلاس وتقنع بالقليل مع حفظ الحدود؛ وهي امتثال الأمر والانتهاء عن النهي، والصبر على ما يرد من القدر فإذا دمت على هذا لقي قلبك ربّك، ودخل عليه سرُّ سرّك فحينئذ تنكشف الأشياء لك، ترى عين العين، وتصير كما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه :{لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً}. وقيل له : {هل رأيت ربك ؟ فقال : لم أكن أعبد ربّاً لم أره}.
وسئل بعض الصالحين هل رأيت ربك ؟ فقال : لو لم أره لتقطعت مكاني . فإن قال قائل : كيف تراه ؟ فأقول : إذا خرج الخلق من قلب العبد ولم يبقَ فيه سوى الحقّ عزّ وجلّ يراه ويقربه كما يشاء، يُريه باطناً كما أُرِيَ غيرُهُ ظاهراً، يريه كما أرى نبينا محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم ليلة المعراج، كما شاء. يُري هذا العبد نفسه ويقرّبه ويحدّثه مناماً، وقد يجذب قلبه إليه يقظةً، يُغمض عيني وجوده فيراه بعيني قلبه كما هو عليه من حيث الظاهر ، ويعطيه معنى آخر فيراه به، يرى صفاته، يرى كراماته وفضله وإحسانه والظفر به. يرى برّه وكنفه. من تحققت عبوديته ومعبوديته ومعرفته لا يقول : أرني ولا ترني ولا أعطني ولا تعطني، يصير فانياً مستغرقاً؛ ولهذا كان يقول بعض من وصل إلى هذا المقام : إيش عليَّ منّي، ما أحسن ما قال : أنا عبده وليس للعبد مع السيّد اختيار ولا إرادة. اشترى رجل مملوكاً، وكان ذلك المملوك من أهل الدين والصلاح، فقال : يا مملوك إيش تريد تأكل ؟ فقال له : ما تطعمني. فقال له : ما الذي تريد أن تلبس ؟ فقال : ما تلبسني. فقال له : أين تريد أنْ تقعد منْ داري ؟ فقال : موضعاً تقعدني فيه. فقال له : ما الذي تحبّ أن تعمل من الأشغال ؟ فقال : ما تأمرني. فبكى الرجل وقال : طوبى لو كنت مع ربّي عزّ وجلّ كما أنت معي. فقال المملوك : يا سيّدي وهل للعبد مع سيّده إرادة واختيار ؟! فقال له : أنت حرّ لوجه الله عزّ وجلّ، وأريد أن تقعد عندي حتى أخدمك بنفسي ومالي. كلُّ من عرف الله عزّ وجلّ لا تبقى له إرادة ولا اختيار، ويقول : إيش علي مني.لا يزاحم القدر في أموره ولا في أمور غيره.